خليل صويلح وعزلته الجميلة.. هل يشكل الرحيل من البلاد حتمية لا بد منها في الحروب؟! … «رواية عزلة الحلزون» ادّعاء المعرفة والألقاب العلمية والأكاديمية الرنانة بغير حق!
| ثناء خضر السالم
اللغة عالمٌ جميل يفيض إحساساً وفكراً وصوراً، يمسكُ بطرف قلبك ويقول: انظر إلى دهشة إبداعي. هي لغة الروائي السوري خليل صويلح، تثير شهيتك إلى المتابعة، يزيدها سحراً التوظيف الجيّد للتّراكم المعرفي الذي يفيض به النص.
«عزلة الحلزون» هي الرواية الأخيرة التي صدرت للكاتب منذ مدة وجيزة، وهي كسابقتها «اختبار الندم» تقف عند تفاصيل الحرب في بلدنا.
ينتصر الكاتب في مقدمة الرواية للعقل من خلال إيراده مقولتين إحداهما للجاحظ «فلا تذهب إلى ما تريك العين واذهب إلى ما يريك العقل، والعقل هو الحجة» والثانية للقديس يوحنا فم الذهب: «أريد أن أطرد لا الهراطقة بل الهرطقة».
المشكلة التي يقف عندها الراوي كمدقّق لغوي هي كثرة الأخطاء الفادحة بحق اللغة العربية على الحائط الأزرق (الفيس بوك). وينتقل بعدها إلى عرض مشكلته مع زوجته التي لم تفلح في إقناعه بحتمية الرحيل عن البلد في هذه الظروف الصعبة. الزوجة الراحلة ثريّا صبّاغ هي أنموذج للشخص المنافق الوصولي استغلّت الحرب وأمّنت لنفسها فرصة اللجوء إلى بلد آخر، «فقد لفّقت لنفسها سيرة متخمة بالاضطهاد والملاحقات الأمنية وأخطار العيش في البلاد، كانت قد أخذتها من صفحات مدوّنات لنسوة مجهولات كتبن تجاربهن في الانتهاك والخوف وحوادث الخطف».
أعتقد أن الرواية توثّق الحدث بشكل أفضل من كتب التاريخ نفسها، فكما كان الشعر الجاهلي يوازي وزارة إعلام، فالرواية في العصر الحديث هي هذه الوزارة عينها، فهي ترى الواقع بعين الحقيقة بعيداً عن مقولة (التاريخ يكتبه المنتصرون).
وقف الكاتب عند مفرزات الحرب بدءاً بعمليّات التعفيش التي سادت البلد، فقد امتلأت المحالّ بالبضائع المنهوبة وتمّت المتاجرة بأغراض أناس أغلبهم من المتضرّرين الذين تركوا بيوتهم بعدما انعدم الأمان في أمكنة إقامتهم. ويرصد تمادي بعض الشخصيات في فسادها وتجبّرها وتسلّطها على البشر وطغيانها – ففي الحرب تعمّ الفوضى- وسقوط بعضها وفقدانه كلّ ما نهب. ويقف عند الفساد الذي طال المؤسسات العلمية فصار لقب (دكتور) متاحاً بوفرة، فضلاً عن السّرقات العلمية لرسائل دكتوراه ولا ننسى تزوير الدال الفخرية. وقد قام البعض بالاستعانة بغيرهم للكتابة في الصحافة وحصلوا على ألقاب رنّانة.
النص مكتوب بسرد متين وحبكة محكمة يقدّم لنا من خلاله معلومات تتدفّق بسلاسة كنهر غزير يفيض معرفة، طبعاً لن أتمكّن من الإحاطة بكل الكتب التي وردت في الكتاب:
فيتضمّن كتاب «حياة الحيوان الكبرى» لابن محمد الدميري صفات الحيوان ووصفات طبية في عدة أمراض. ويتحدث عن كتاب «الحيوان» للجاحظ الذي كما قال الجاحظ «جمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، وما الفرق بين الدمية والجثة والوثن والصنم».
ويعرض لنا كيف تمّ إحراق كتب ابن رشد في حياته على يد الخليفة يعقوب منصور الموحّدي، وكيف اتُّهم بالإلحاد لأنه دعا إلى إعمال العقل، ويقف عند المصير المحزن الذي انتهى إليه في أليسانة كبائع خيول وفخاريات.
ويقف عند المذبحة التي طالت كتاب ألف ليلة وليلة بحذف عبارات اعتبروها تفتقد الاحتشام وإضافة ليالٍ لم تكن موجودة في النسخة الأم.
أمّا عن الانتحال في تاريخنا فيقف عند كتاب الأغاني وكلّنا نعرف أن من قام بجمع ما فيه هو أبو الفرج الأصفهاني، يورد الروائي مقولة للخطيب البغدادي تنسف نسبته إلى أبي الفرج (كان أبو الفرج أكذب النّاس، كان يدخل سوق الورّاقين وهي عامرة، والدكاكين مملوءة، فيشتري شيئاً كثيراً من الصحف، ويحملها إلى بيته لم تكن رواياته كلها منها).
ما بين غزا وفتح: كنت أظنّ أن عنونة الدروس في الكتب المدرسيّة تحت عنوان «الفتح العثماني» أمراً مشيناً، ولم يخطر ببالي أن أنظر في المعجم، فالروائي يفرّق بينهما:
غزا العدوّ: سار إلى قتاله في أرضه
فتح البلاد: دخلها بعد أن غلب أهلها وأخضعها لسلطته.
حقائق تاريخيّة: تاريخ الحرير الدمشقي وكيفية احتضار هذه المهنة بافتعال حرائق لورشات البروكار قبل نحو مئتي سنة بمؤامرة حاكتها مطابخ سفارات أجنبية متضرّرة من ازدهار هذه المهنة في الشرق.
انحطاط اللغة في القرن السادس والسابع الهجري وصولا إلى القرن الثاني عشر.
نقد التاريخ نقداً بنّاءً باستخدام الحجة والعقل: (ما إن اكتشفت أن البلاذري قد كتب فتوحه بعد مئتي سنة على الفتح الإسلامي حتى أدركتُ أيّ مهزلة أعيشها وأنا أتابع مرويّاته)
نقد ديني: ينقد الرّاوي الأشخاص أصحاب السوابق الأخلاقية الذين يقررون أن يتوبوا فيدّعوا الحكمة والمعرفة الطبية والدينيّة والقدرة على شفاء المرضى ليصلوا إلى غاياتهم الدنيئة.
ذكر بعض أسماء الأمكنة التي أصابها الخراب: ورد ذكر قرية صدد في ريف حمص، وهي أقدم مدينة سريانية كما يذكر الراوي. فلم يسلم من شرّ المخرّبين فيها حتى القبور الّتي كُسرت شاهداتها ورميت بشكل عشوائي، فلم تتمكّن رهام سمعان حبيبة الراوي من الاستدلال على قبر والدها إذ كُسِرت شاهدة القبر ورميت، لكنّها بقيت مصرّة على البحث.
أقسى درجات الألم والتمسّك بالحياة: يقول الراوي (أقسى صور التمسّك بالحياة ما كتبته متدرّبة على لسان الهاربات من جحيم مدينة الرقة التي حوّلتها حمم الطائرات المعادية وسيوف البرابرة حطام مدينة مهجورة ومنسية» تمكنّا بعد حصار طويل من عبور حقل الألغام بالمشي على أشلاء الذين انفجرت بهم الألغام قبلنا وهم يحاولون الهرب».
رؤيا واسعة الأفق للحبل: (الحبل الذي ينقذ من الهلاك، الحبل الذي يلتف حول العنق على هيئة أنشوطة، الحبل المشدود إلى دلو لسحب الماء من البئر في صحراء العطش، حبل الغسيل، حبل الوريد، الحبل السري لحظة انفصال الجنين عن المشيمة).
جمالية التعبير: يبقى الروائي في إطار الأبيض وينتقل من الحياة التي تجسدها الملاءة البيضاء إلى الموت الذي يجسده الكفن الأبيض (سأغرق بمزاج سوداوي داكن يحيل الملاءة البيضاء كفناً بجثة امرأة اختنقت للتوّ تحت الأنقاض).
صورة أخرى: (شطبت اسمها عن جرس الباب الخارجي، وبقي اسمي مشنوقاً بمفرده).
الغرائبية والمبالغة في الوصف: لمّا يحكي لنا الرّاوي عن جدّه السادس «غزال الهلالي» الذي أحبّ امرأة واستدلّ على ديارها، وبعد أيام من وصوله إلى قبيلتها مات ولهاً وماتت هي قربه.
اللازمة التي تتكرّر وتنبض وجعاً: لمّا يذهب الرّاوي إلى مستودع كتب مسروقة يفتح الستارة فيرى غسالات برّادات كومبيوترات، وتقع عينه على غسالة يتدلّى منها قطعة قماش حمراء منقّطة وقد تكون فستاناً لإحداهنّ. هذا المشهد يتكرّر في أكثر من موضع ليرسّخ الألم ممّا حصل في هذه الحرب (كنتُ أقلّبُ صفحات الكتاب، بالتناوب مع مشهد غسالة كهربائية مسروقة كانت تدور في رأسي بفستان أحمر منقّط بفراشات محنّطة).
لغة الحرب: (وكانت شوارع المدينة حبال غسيل طويلة ومتقاطعة لتجفيف جثث القتلى قبل دفنها في مقابلة مجهولة).
مقولات جميلة وردت في الكتاب: التوحيدي «ألا تعلم أن الكلام كالجسم والنّحو كالحلية؟». «مثل الكاتب مثل الدولاب إذا تعطّل تكسّر». ابن عربي «الحب موت صغير» «وتحسبُ أنّك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر». ابن رشد: «اللحية لا تصنع فيلسوفاً».
الحكمة: «مصائرنا اليوم هي ثمار صمتنا حيال خطيئة الأمس».
«ففي أوقات الفوضى عليك التزام الصمت والاكتفاء بمراقبة الحملان وهي تستبدل أظلافها بمخالب الوحوش». « ادّعاء العمل على تربية دود القزّ لن ينتج حريراً بالضرورة».
مفارقة: مفارقة قاسية يسردها الراوي أوّلها صورة مشرحة في الطابق الثامن تخص عمليات التجميل، حقن شفط تكبير تصغير و«مشرحة لأجساد لن تجد من يدفنها عدا بقايا حطام إسمنت وحديد واستغاثات مكتومة». هي إذاً مفارقة بين حياة مملوءة بذخاً وترفاً وحياة مملوءة موتاً ووجعاً.
لماذا عزلة الحلزون: يعيش الراوي حالة عزلة في قوقعته ظانّاً أنه بذلك يستطيع أن يبقى بمنأى عن الوجع أمام أحداث قاسية تشهدها حياته الشخصية والوظيفية وظروف بلده. يقول: «حلزون لا يشاركه أحد هواء قوقعته الصلبة، حلزون ضال من فصيلة الرخويّات لا يشعر بالألم في عموده الفقري، ولا يكسر أحداً ظهره بالفقدان أو الخداع».
الرّاوي لن يتمكّن من الصمود، أنه يستسلم في النّهاية أمام هول الحوادث المحيطة به، حتى رهام غادرته إلى مسقط رأسها، فيختم: «أنا الآن حلزون مكسور الظهر».
لن أتمكّن من الإحاطة بالزّخم المعرفي الموجود في الرّواية المتزامن مع سرد متين وأسلوب سلس، وصور جميلة، لذا أترك لكم القراءة كي تعرفوا أكثر وتستمعوا.