الأولى

قالت محدثتي

بنت الأرض :

قالت محدثتي إنها تمضي معظم وقتها تدرس أولادها اللغة العربية لأنهم اليوم يدرسون للشهادة الثانوية ولغتهم العربية سيئة وتمضي معهم ساعات وساعات ولكن من المستحيل أن يفهموا الإعراب والشعر والمنهاج الكامل للغة العربية المقرّر من وزارة التربية. ولم تجد محدثتي أي غضاضة في القول إن الأحفاد الذين وُلدوا في بلدهم سورية ونشؤوا وكبروا بها لا يتقنون لغتهم العربية التي هي فخر لغات العالم. بل كانت أكثر حرصاً أن تعيد على مسامعي اسم المدرسة التي درسوا بها منذ نعومة أظفارهم في دمشق وأنّ لغتهم الإنكليزية ممتازة جداً وأنها تؤهلهم للدراسة في جامعات الغرب حيث لا يحتاجون إلى اللغة العربية.
وضع أحفاد محدثتي يمثّل أنموذجاً لظاهرة غريبة بدأت تظهر في سورية في العقدين الأخيرين مع السماح بافتتاح مدارس خاصة ومدارس أجنبية في سورية. ومع الاعتراف بأهمية تعليم الأطفال اللغات الأجنبية إلا أن القاعدة والأساس يجب أن يكونا تعليم وإتقان اللغة العربية أولاً. ومن أجل الإنصاف أقول إن وزارة التربية قد فرضت على كلّ هذه المدارس الخاصة الالتزام بتدريس منهاج اللغة العربية الذي قررته وزارة التربية إلا أن الحقيقة هي أن هذه المدارس لا تدرس هذا المنهاج، أو تدرس النزر اليسير منه بحيث تجد جيلاً كاملاً من الشباب والشابات يتحدثون بلغات أجنبية من دون أن يتقنوا لغتهم الأم، اللغة العربية، لغة القرآن الكريم.
ومن أجل مقاربة موضوعية هل يستطيع أحد أن يجد شاباً ألمانياً أو إسبانياً أو صينياً أو روسياً ولد ونشأ في بلاده من دون أن يتقن لغته الأم؟ وهل تسمح أي دولة لمدارس على أرضها لا تخرج شباناً يتقنون لغتهم أولاً قبل أن يتقنوا أي لغة أخرى؟
إنّ الاستهانة باللغة العربية في معظم البلدان العربية وتبجيل اللغات الأجنبية هو جزء من التبعية التي يعاني منها عالمنا العربي اليوم. فقد شاعت اللغة العامية حتى على شاشات التلفاز وأصبحت الأخطاء اللغوية أمراً عادياً حتى في المدارس والجامعات وكأنّ هناك شعوراً خفياً ينكر الحاجة إلى أن يتقن العرب لغتهم، أو أن يفتخروا بلغتهم وأدبها وشعرها وتاريخها وفلسفتها وحضارتها. وأصبح المفهوم السائد لتعلّم اللغة العربية هو أن يتحدث الشخص بعض الجُمل بالعربية، لا أن يكتب وينظم الشعر، ويحلّل ويبدع بلغته الأم. وفي عصر قلّت فيه القراءة وندرت الكتابة المبدعة الخلاقة أصبحت الثرثرة بالعامية هي أقصى ما يطمح البعض إلى تحقيقه.
كانت شكوى محدثتي تدور في ذهني وأنا أراقب قوات الاحتلال الإسرائيلية تلاحق أطفال الحجارة وأقرأ خبر قانون صهيوني يجيز قتل راشقي الحجارة بالرصاص الحيّ وأشاهد الاعتداءات الصارخة على القدس وأهل القدس وعلى فلسطين والأقصى في عملية تهويد مستمرة ولكنها تصاعدت في السنوات الأخيرة طرداً مع انشغال البلدان العربية بالحروب التي خُلقت خصيصاً لها كي تنشغل نهائياً عن فلسطين ولكي يمرّر المحتلون كلّ ما يريدونه في حمأة الواقع العربي المتدهور في الكثير من بلدانه. وذلك لأن العزّة والكرامة لا تتجزأان فكما هي تنطبق على اللغة والانتماء كذلك تنطبق على الموقف من القضايا الكبرى والمقدسات والأرض والأوطان. وحين يشعر البعض أن اللغة الأجنبية هي الأهم وأنّ اللغة العربية ليست حاجة ولا ضرورة ولا قيمة فكرية ووطنية وثقافية وتاريخية يمكن لهؤلاء أنفسهم أن يشعروا أن فلسطين بعيدة وأنّ مشكلة القدس والأقصى لا تعنيهم وأنّ الخلاص الفردي هو الأساس وأنّ المؤذّن قد أذّن باستشهاد القضايا الوطنية وعدم حضورها على قائمة أولويات الشعوب. ولهذا فإن تدهور إتقان لغتنا العربية الجميلة وتراجع الاهتمام بها إلى أدنى مراتبه هو مؤشر خطير لاستلاب العرب وانسحابهم من التماهي مع قضاياهم والدفاع عنها وفرز الأولويات بشكل سليم وصحيح. إن التهاون في إتقان اللغة هو تهاون على جزء مهم من الهوية الوطنية. والسكوت عن العدوان على القدس والأقصى هو سكوت عن جزء جوهري من مقدسات هذه الأمة وهويتها العروبية والحضارية. لأن الأمور لا تتجزأ، فإما غرس الانتماء في النفوس بكلّ أوجهه وأشكاله مهما بلغ الثمن، وإما التهاون والتراجع والتبعية بحجة المعاصرة وتقدّم الغرب وتراجع العرب في الجامعات والأبحاث. معركتنا على الإرهاب والتبعية والاحتلال معركة معقدّة الأوجه ولا يشكل السلاح إلا وجهاً واحداً من أوجهها، فهل لنا التوقف عند الأوجه الكثيرة التي تغذي ضعفنا وتعزز قدرة أعدائنا على محاربتنا؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن