اقتصاد

نهوض الأفكار الميتة!

| علي محمود هاشم

في أكثر التخمينات ملائكية، ثمة سوء فهم مازال يكتنف طروحات نخبتنا التجارية حول المعضلات الأساسية التي يعانيها الاقتصاد الوطني.
وإن لم يكن التجار وحدهم من يتحملون المسؤولية عن ذلك، إلا أن تصديهم بين شهر وآخر لما بات أشبه بـ«مهمتهم المقدسة» في إعادة هندسة المخاطر التي يحفرها التهريب على جسد الاقتصاد، وتكرار اتهاماتهم الخفيفة لهيكلية التجارة الخارجية، إنما يثير الحنق حول طروحاتهم البديلة في تبييض قوائم المنع من الاستيراد وما يكتنفها من استهزاء بالمنعكسات الاجتماعية لهذا الطراز من التطلعات.
خلال الأسبوع الماضي، تجددت «نوبة» الهجوم على السياستين التجارية والجمركية عبر جبهتين متزامنتين في آن معاً، لدفعهما للقبول بالبيانات الجمركية القديمة وإلا: فإطلاق الاستيراد.. هكذا -ببساطة- تم إحياء الأفكار الميتة من مدافنها القديمة، قبل إرسالها للحكومة على شكل طردين تم توشيتهما بالخيارين الشقيقين المعروفين، والمملّين لكثرة تكرارهما: غض النظر عن المهربات، أو السماح باستيرادها؟!
الطردان كلاهما، تم تسليمهما بشكل متزامن، وصل الأول إلى وزير المالية على شكل شكوى تنطوي على رزمة خفيفة من الانتقادات المتوقعة لأداء العناصر الجمركية والتلمحيات المبطنة بضرورة «احترام» للبيانات الجمركية القديمة التي لطالما شكلت جسراً عريضاً لشرعنة تدفق الموجات العارمة من المهربات خلال أقسى مراحل الحرب التي عصفت بالاقتصاد الوطني، أما الآخر، فاستمعت له الحكومة شفهياً على شكل خطاب مطول ملخصه: تعديل لوائح التجارة الخارجية والسماح «باستيراد كل ما يهرب ولا ينتج محليا»!
قد يكون سلك الجمارك من النوع «اللبّيس» الذي لا يمكن الدفاع عنه دون خسائر، لكن من قال إن هذا الطراز من السلطات يتوجب به أن ينام على ذراع التجار ويتجاذب معهم قصائد العشق؟! ومع ذلك، فالأمر لا يتعلق بممارسات بعض عناصره التي تعد خسارة مقبولة، قياساً بالجوانب الاحتماعية الخطيرة التي تطوق رقبة للاقتصاد الوطني المتأرجح -راهناً- أعلى حافة سحيقة، ولا ينقصه سوى دفعة صغيرة ليتدحرج منها!
فالخطر الحقيقي للتهريب في هذا الوقت من عمر الاقتصاد، ليس في تسلله خارج القنوات الجمركية، بل في تدفقه داخل الحدود باعتباره شكلاً من الاستيراد، وهو لذلك ينطوي على جميع مخاطر تنمية الطلب المحلي على السلع المستوردة المُغرقة في الكمالية، «صناعة السيارات» مثالاً، في الوقت الذي يعاني فيه ميزان المدفوعات، ومن ضمنه الميزان التجاري، رضوضاً ترخي بآلامها المزمنة على المفاصل الهشة لليرة السورية.
ولأن تجارنا لا يعرفون الخسارة، على عكس حركة التاريخ، فإن ثمن التبدلات النقدية عادة ما تدفعه الشرائح الأكثر هشاشة، وفي مقدمهم ذوو الدخل المحدود ممن لا يزال الاقتصاد بحاجة ماسة إليهم للدفاع عنه في الثغور التي تتسرب منها الحرب الاقتصادية براً وبحراً وجواً، الأمر الذي يفترض -منطقيا- الحفاظ على قدرتهم المعيشية بالحد الأدنى، أقله لحين انتهاء الحاجة إليهم؟!
طروحات التجار المتجددة لتحويل التهريب إلى أحد مشتقات الاستيراد، تتلاقى مع ظهير فكري يقبع داخل أروقة المؤسسة الحكومية، ومع ذلك، فثمة ما يطمئن -نسبياً- حيال المؤشرات المتتالية التي تؤكد بأن الحكومة باتت على دراية فائقة بمحدودية خياراتها، وخاصة بعدما صقلت الخضات الأخيرة معارفها جيداً حول مصيرية الخيارات الإنتاجية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن