قضايا وآراء

مقيم جديد في «10 داوننغ ستريت»

| عبد المنعم علي عيسى

تقول السيرة الذاتية للرجل إنه من مواليد نيويورك 19 حزيران 1964، أما اسمه الكامل فهو بوريس ستانلي عثمان علي كمال من أصول تركية لكنها تحولت عند الجد إلى التغريب فاستبدل عثمان اسمه بـ«ويلفرد جونسون» مستعيراً كنيته الجديدة من جده لأمه.
هذه الحالات كانت شديدة التكرار ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية في عام 1916 وهي في أغلبها بدافع ذاتي ناجم عن انهدام النموذج الذي كانت تمثله تلك الإمبراطورية، لكن ذلك كان يحدث أيضاً بفعل آخر كانت قد وفرته القدرات الهائلة التي تتميز بها «المصهرة» الأوروبية ونموذجها شديد الإغراء للهاربين من فضاءات الوهن والتفكك، فكيف الأمر إذاً والحال هنا هو مع «مصهرة» أعتى وأشد ضراوة؟ ولربما كان ذلك هو ما يفسر انقلابية جونسون التي أخذت به من الانتماء، ولو بالجذور، إلى العداء لهذي الأخيرة، لنراه يعلن أن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين، وأن كل بؤر التوتر في العالم لها علاقة بالإسلام، وهذه الأفكار لا يمكن النظر إليها إلا على أنها تعبير عن ردة فعل انسلاخية لرؤيا مأزومة تبحث في النتائج ولا تدرك المقدمات، ومن الصعب وفق كاريزما الرجل فهمها على أنها نابعة من النظرة البريطانية العميقة التي تدرك أن مفهوم النهوض في المنطقة قد ارتبط بحيوية الإسلام التي طيعت كما صهرت تجارب شعوبها، ولذا فإن الحل وفق تلك النظرة يكمن في العمل على فك الارتباط ما بين هذي الأخيرة والرافعة الحضارية الإسلامية.
لا شيء لافتاً للنظر في ملف الرجل فهو قد بدأ حياته صحفياً ثم رئيساً لتحرير مجلة المشاهد قبل أن تشهد مسيرته نقلة نوعية في عام 2008 عندما انتخب عمدة لمدينة لندن ثم كان عليه الانتظار ثماني سنوات ليصبح زعيماً للدبلوماسية البريطانية في عام 2016 بعد تعيينه وزيراً للخارجية في وزارة تيريزا ماي التي أسقطتها جدران البريكست غير المرنة كما يجب للتعاطي مع العمق البريطاني المأزوم منذ عام 1956 إلى اليوم، وفي أتونها كان السؤال الأهم عن أنجع السبل للعودة إلى ما قبل خريف هذا العام الأخير الذي يؤرخ لانحسار الشمس عن الإمبراطورية البريطانية، وهل هي تقتضي القرب من أوروبا أو السير بعيداً عنها؟
فاز بوريس جونسون بسكن 10 داوننغ ستريت في ظروف هي الأعقد مما تمر به بريطانيا منذ حرب السويس، ولربما أخطر ما في الأمر هو أنها، أي بريطانيا، وعلى الرغم من تراجع دورها العالمي ما بعد هذي الحرب الأخيرة إلا أنها ظلت تمثل العمق الغربي الأول والبوصلة التي تهتدي بها التمددات الغربية حيثما قررت الاتجاه، وفي تجربة الانكفاء التي فرضها بروز كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة كقوتين حاكمتين للنظام الدولي زمن الحرب الباردة 1945-1989 لم تتوار كلياً وإنما حاولت من جديد بوسائل أخرى كانت أبرزها «رابطة الكومنولث» التي اختارت الجنيه الإسترليني كبديل عن تراجع القوة العسكرية مع الاستنجاد بتراث استعماري هو الأغنى عالمياً وباعتراف القوى الناهضة الجديدة الأمر الذي ظهر في نجاح الرياح البريطانية في استمالة القرار الأوروبي في الكثير مما يعتري القارة، بل نجحت في إظهار سطوتها على ما وراء الأطلسي أيضاً وعلى الرغم من تفوق الأميركيين في الثروة والقوة ونموذج النهوض إلا أن الأثر البريطاني ظل ذا ظهور باد في الإستراتيجيات الأميركية.
يمكن القول إن اتجاه رياح التأثير قد انقلبت على ضفتي الأطلسي في اتجاه معاكس للاتجاه السابق منذ أن انتشت بذور «البريكست» وباتت جديرة بالبقاء في مؤشر يظهر شدة قوة الجذب الأميركية ونجاحها في استمالة قوى وازنة في النسيجين الاقتصادي والثقافي البريطانيين، والمؤكد هو أن جونسون يمثل اليوم الابن الشرعي للبريكست التي وعد بأن ينجزها ما قبل موعدها المقرر في 31 تشرين الأول المقبل بعد إخفاق تيريزا ماي في إنجازها عبر محطة 29 أيار الماضي التي كانت السبب الأهم في الإطاحة بها، إلا أن من المشكوك فيه أن يستطيع الخلف النجاح في ما أخفق فيه السلف، بل من المشكوك فيه أن يستطيع الأول تمديد إقامته في منصبه بسبب حجم المعارضة التي يواجهها داخل حزبه عبر عنها إعلان 15 وزيراً في حكومته عن نيتهم في الاستقالة، وكذا في نسيج بريطاني بات متحولاً في الآونة الأخيرة أو هو أخذ في مراجعة حساباته التي تأخذ بالحسبان رفض الاتحاد الأوروبي الدخول في مفاوضات جديدة مع بريطانيا لخروجها من هذا الأخير.
طالت إقامة جونسون في 10 داوننغ ستريت أم قصرت فالضعف هو السمة التي تعتري زعامته بل مملكته أيضاً، فمجرد الوصول يعني أن بريطانيا العظمى مقبله على نوع آخر من الغروب سيكون الأقسى من ذلك الذي عرفته خريف عام 1956، لكن ذاك لا يعني أن تلك الإقامة ستكتسب طابع مهادنة الأعاصير التي تحيط بها، إذ لطالما كان الضعف والقوة وجهان لعملة واحدة، وكلاهما يمكن أن يدفع نحو مآلات هجومية خطرة على امتداد جبهات الصراع خصوصاً الساخنة منها، ووصول جونسون إلى الحكم سيعزز من آمال الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إحياء ثنائية طوني بلير بوش الابن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن