كلما قرأت أو سمعت خبراً جديداً عن الانبطاحات المجانية المهينة المتوالية، التي تقوم بها رخويات الرخاء النفطي العربي، والمتعيشون على فضلاتها، أمام البسطار الصهيوني المتعجرف، أترحم على المؤرّخ الدكتور يوسف إبراهيم يزبك إذ أتذكر كتابه «النفط مستعبد الشعوب» الذي صدر في بيروت عن مطبعة الفنّ الحديث، عام 1934، وقدم له بخط يده قائد ثورة الشمال البطل إبراهيم هنانو. صحيح أن ذلك الكتاب صغير من حيث الحجم، لكنه كبير من حيث الأهمية والمصداقية وعمق الرؤية، لأنه تنبأ، قبل خمسة وثمانين عاماً، بالأضرار الجسيمة التي يمكن أن يسبّبها النفط للعرب في حال عجزهم عن استخدام ثرواتهم النفطيّة وقيامهم بتبديدها وعدم توظيفها في الطريق الصحيح.
«النفط مستعبد الشعوب». دققوا معي في هذا العنوان، فهو يلخص قرناً من تاريخ منطقتنا بثلاث كلمات، فالنفط يستعبد شعوب المنطقة من خلال استعباد حكامها، ولا أعرف ماذا كان صاحب العقل النير الدكتور يوسف إبراهيم يزبك يمكن أن يقول لو عاش إلى زمننا هذا، ورأى دول النفط تتحول إلى حصالات يجمع فيها (طويلو العمر) قروش نفطهم ليأتي طويل اليد ترامب فيكسرها وينهب كل ما تجمع فيها من مليارات! ومع ذلك تراهم يبخلون بالقروش على شعب فلسطين، ويقومون بشن حرب إجرامية مباشرة على الشعب اليمني الفقير، كما يشنون حروباً بالوكالة على شعوب سورية وليبيا والعراق وتونس!
في يوم السادس من نيسان ١٩٧٧، تحدث المفكر القومي العربي الراحل الدكتور عصمت سيف الدولة مخاطباً طلاب جامعة الكويت بقوله: «إن الصهيونية وحلفاءها بعد أن انهزموا عسكريا في جبهة القتال في حرب تشرين الأول 1973، فتحوا من جباهنا ثغرات، وغزوا عقولنا». وتابع سيف الدولة قائلاً: «… اختصروا الطريق إلى النصر النهائي، فبدلا من احتلال أرضنا جزءاً جزءاً، بدؤوا في احتلال رؤوسنا فكرة فكرة… جردونا من نظريتنا العربية، ودسوا في رؤوسنا نظريتهم الصهيونية، رفعوا القومية العربية من فكرنا، ووضعوا بدلا منها القومية اليهودية، ولما انمحت من ذاكرتنا دولة الوحدة، قامت بدلا منها دولة إسرائيل». وفي مسرحية «الاغتصاب» التي أصدرها سعد اللـه ونوس عام 1990 تحدث ونوس عن اختراق الصهيونية للجسد العربي، وجاء على ذكر (صهاينة عرب). والحق أن هؤلاء (الصهاينة العرب) نجحوا حيث فشلت إسرائيل، فقد استطاعوا من خلال ممارساتهم الإجرامية أن يجعلوا الشباب العربي يكفر بالعروبة والقومية ويمارس جلد الذات كما لو أن ذلك (الكفر) يشكل مقياساً لشجاعة الشاب ونزاهته وتقدميته! حتى إن بعض التقدميين المزيفين يروجون الآن لــ(صفعة) القرن التي لم يشهد التاريخ مثيلاً لها في صفاقتها، فهي تلغي الحقوق التاريخية لعرب فلسطين مقابل قروش تتكفل (رخويات) الرخاء النفطي، بدفعها لهم، عملاً بالمقولة القديمة: «من دهنه سَقِّي له»! وهم يروجون لهذه الصفقة من باب الواقعية السياسية (الرخوية)! لكن الواقع ليس كما يزعمون، فلنتأمل ماذا قال الصحفي (الإسرائيلي) جدعون ليفي: «يبدو أن الفلسطينيين من طينة مختلفة عن باقي البشر، فقد احتللنا أرضهم، وأطلقنا عليهم الغانيات وبنات الهوى، وقلنا إنه بانقضاء بضع سنوات سينسون وطنهم وأرضهم، وإذا بجيلهم الشاب يفجر انتفاضة الـ87. أدخلناهم السجون وقلنا إننا سنربيهم في السجون. وبعد سنوات، وبعد أن ظننا أنهم استوعبوا الدرس، فإذا بهم يعودون إلينا بانتفاضة مسلحة عام 2000، أكلت الأخضر واليابس، فقلنا نهدم بيوتهم ونحاصرهم سنين طويلة، وإذا بهم يستخرجون من المستحيل صواريخ يضربوننا بها رغم الحصار والدمار، فأخذنا نخطط لهم بالجدران والأسلاك الشائكة… وإذا بهم يأتوننا من تحت الأرض وبالأنفاق، حتى أثخنوا فينا قتلاً في الحرب الماضية، حاربناهم بالعقول، فإذا بهم يستولون على القمر الصناعي عاموس ويدخلون الرعب إلى كل بيت في إسرائيل، عبر بث التهديد والوعيد، كما حدث حينما استطاع شبابهم الاستيلاء على القناة الثانية.
خلاصة القول، يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال».
فلتخسأ رخويات الرخاء النفطي مستعبد الشعوب! فنحن، حتى في أقصى حالات ضعفنا، مازلنا أقوياء!