بين يوم وآخر يطلع علينا مصطلح من هنا، وآخر من هناك، وفي لحظة ما يتفتق ذهن أحدهم عن أمر ما في جلسة ما، فيقوم بالحديث عنه، ويحاول الترويج له، ويأخذ حقه من النقاش الطويل، وربما صار موضة حقيقية لأيام وأسابيع وشهور! ولا يميز أحدهم بين ما تحتاجه البلدان من اكتناز فكري وحضاري للتأسيس لمرحلة قادمة، وبين ما هو طارئ ليعيش أحدهم أيامه التي يراها مهمة، والأطرف أن هذه الأفكار عندما يطرحها أحدهم يسبغ عليها بحكم موقعه ومكانته صفة القدسية، والكلام الذي لا يقبل الحوار أو النقاش! فمرة يتحدث أحدهم عن التطرف، وأخرى عن الداعشية، وثالثة عن العلمانية، ورابعة عن الإلحاد، وخامسة عن القومية، وسادسة عن الوطنية، وسابعة وأولى عن الدينية، والغريب أن الطائفية والمذهبية بدأت تأخذ دوراً ريادياً في الأفكار لا الحوار وحسب!
الأوطان والبلدان تحتاج إلى مفكرين ومنظّرين وباحثين، قد ينتمون إلى الطوباوية بنظر المجتمع لكن المجتمعات بحاجة ماسة لهم، لتنهل من أفكارهم وتقوم بتطبيقها أحياناً وبتعديلها في مرات ومناقشتها للخروج بالأفضل في أحايين كثيرة، والحضارات الكبيرة أوجدت مثل هذه الشخصيات عبر تاريخها سواء كانت الآراء طوباوية أم سلبية، ابتداء من سقراط وأرسطو وأفلاطون وصولاً إلى كانط وديكارت وبسمارك وسارتر، وصولاً حتى هتلر ورؤيته الضيقة العدوانية.. المهم أن مثل هؤلاء من الضرورة بمكان وجودهم في أي حضارة أو حزب أو بلد، لأن أفكارهم هي القادرة على بعث الحياة من جديد، ولم نجد حزباً ليس له من يضع أطره النظرية والفكرية في أي مكان من العالم، فهذه الماركسية، كانت تعتمد آراء ماركس، وعندما غدت الماركسية سياسة لا رؤى فكرية فيها انتهت من الميدان، وإن بقيت آراؤها موجودة في الأرض، وهذا الحزب وذاك، سواء كان علمانياً أم دينياً أو قومياً يعتد بمفكريه أكثر من اعتداده بقوته وعديده، ولا تزال قراءة نشوء الأمم الأساس الذي تقوم عليه رؤية الحزب القومي السوري الاجتماعي، ولكن غياب المفكرين جعل الفكرة في الأذهان وقد تتحول إلى طوباوية، وكذلك النظرية الوطنية الفرعونية والفينيقية وغيرها.. أما الفكرة القومية فقد جاءت ردة فعل على الاحتلال وعملت من أجل التحرر، لا يستطيع أحد أن ينكر أن هذه الفكرة لم تجد من يغذيها بالنظريات والآراء، وإن كنا نجد بعض اللمع والآراء من ساطع الحصري إلى زكي الأرسوزي إلى قسطنطين زريق إلى عصمت سيف الدولة وغيرهم.. ويغيب عن الكثيرين أن المراحل العربية تنتهي بانتهاء الأشخاص لعدم وجود الفكر والنظرية، فالناصرية لم تجد منهجاً وإطاراً ونظرية، وبقيت إطاراً شعبوياً عاطفياً، وكان بالإمكان أن تؤسس لمرحلة قومية مهمة في مصر وسواها، لكنها بقيت في إطار الأقوال المتفردة في الميثاق وسواه، مع أنها مادة مهمة لوجود نظرية متكاملة يتم تطويرها والعمل عليها.
وفي حزب البعث فإن البداية كانت مبشرة، ولكن التاريخ والوثائق أظهرا لنا عدم وجود هذه النظرية المتكاملة، فقد وجد أشخاص نوابغ كتبوا وخططوا، ولكن الأمر لم يتعدَّ أن يكون اجتهادات شخصية، ولا أغالي إن قلت إن عدداً لا يستهان به من القيادات التي تناوبت عليه لم يكن لديها أي رؤية، والدليل على ذلك أنه لم يتم العمل على أي تطوير أو تعديل، وكل اللجان التي شكلت تقف عند حد معين وكأنها اصطدمت بمقدس، وهذا المقدس لا يتجاوز أن يكون قضايا ومصالح تغلف بأغلفة براقة، حتى عند الأحزاب الدينية غاب هذا التنظير البراغماتي ليتخفى الداعون وراء النص المقدس متناسين أن النص المقدس، لا يمكن أن يشكل رؤية سياسية حاكمية للمجتمع، وخاصة في حال تنوعه، وإن لم يكن متنوعاً كان الأمر أكثر خطورة في الانغلاق والتشتت والضياع، ونحن لا نسمع عن رجل قدم رؤية بعد ظلال القرآن ومعالم في الطريق، بغض النظر عن اختلافنا بالمحتوى الفكري لكتب سيد قطب، فهي وإن انطلقت من مفهوم إلغائي إلا أنها شكلت الإطار الفكري الوحيد للإخوان المسلمين، وكل ما رأيناه من نظريتهم السياسية طموح للسلطة والصعود، وغلفت بإطار عنفي لا ينكره أحد، يعتمد فكرة الجهاد والبذل والحاكمية والتكليف.. لذلك أخفقت الأحزاب الدينية الإسلامية، على حين نجحت الأحزاب الدينية في الغرب، ووصلت إلى فكرة تداول السلطة، وصارت موجودة في كل مكان وترتفع أسهمها وتنخفض، والسبب هو وجود المفكرين، اليوم أحزابنا وتياراتنا، خاصة في سورية بعد الحرب بحاجة إلى أدمغة تضع الأطر النظرية والتنظيرية القادرة على إحياء الحياة السياسية، وهذه الحياة السياسية هي الوحيدة القادرة على التخلص من التطرف والإرهاب والقتل..
قال لي صديقي: أما نشأت أحزاب سياسية في أثناء الحرب؟ أنكرت علمي بها وتابعت النشوء المفاجئ لا يخلق مناخاً سياسياً، ولابد أن تكون الأدمغة على الأرض قبل حصول أي حرب أو أزمة أو كارثة.. ضحك صديقي وقال: لهذا إذا انحرف قطار عن سكته في أي بلد متحضر يستقيل وزير النقل، وفي بلداننا العربية يُقال أصغر مسؤول!
قلت لا، بل وصل الأمر حداً يقال فيه حارس المحطة التي لم يصل إليها القطار في رحلته، وانحرف قبل أن يبلغها، وسابقاً سخر الرحابنة من حادث قطار حدث في البرازيل، وتمّ تحميله بإطار ساخر لبعض القرويين في ضيعة جبلية!
إن الأيديولوجيات مهما كان نوعها بحاجة إلى أدمغة وشيء من البراغماتية التي لا تحيد عن الأسس لتكون قادرة على النهوض بالبلدان لا الأشخاص وإلا فإن الرجاء سيكون منقطعاً من الأحزاب، ويصدق فينا أننا قوم لا نعرف الديمقراطية ولا نجيد تطبيقها.
نحن بحاجة إلى عقليات متنورة تعطي الرؤى المستخرجة من الحياة وليست مستخلصة من مصالح ومنطلقات نظرية.. وما دمنا لا نولي التفكير والعقل قيمة فلا أمل إلا للببغاوات!