كانت فترة صمت (نجيب محفوظ) بعد كتابه الثلاثية قد طالت بأكثر مما ينبغي، وكان الصمت شديد الوطأة عليه لدرجة أنه تمنى الموت، كان النهر متشوقاً للتدفق، وكثر السؤال عن سبب توقفه عن الكتابة فأجاب بضيق: «إن كانت الواقعية ملَّ الواقعية، زهق من آلام الناس ومظاهر حياتهم المباشرة، ولم يعد هناك جديد يكتبه عنهم، وعندما يكتب مرة أخرى سوف يهجر الأدب إلى الأبد».
السلطة التي فشلت في حماية (نجيب محفوظ) سمحت لمحام أن يقاضيه بتهمة ازدراء الأديان، ولم تنشر الرواية إلا بعد رحيل (نجيب محفوظ)، فقد نشرتها دار الشروق المصرية، وكان ميلاد الرواية في 21/أيلول 1959، وقد رصد (نجيب محفوظ) السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي ظهرت فيها رواية (أولاد حارتنا) التي يصفها الكتاب بأنها (رواية مركزية في عالم نجيب محفوظ)، ما قبلها كان واقعياً صرفاً، وما بعدها كانت محاولات دائمة للتجريب، وحملت الرواية ما يمكن وصفه بالانتقال من الشفاهة إلى الكتابية، قال (نجيب محفوظ) عن (أولاد حارتنا): «كنت في الماضي أهتم بالناس وبالأشياء، ولكن الأشياء فقدت أهميتها بالنسبة لي، وحلّت محلها الأفكار والمعاني، وأظن هذا تطوراً طبيعياً بالنسبة لسن الكاتب، أصبحت أهتم بما وراء الواقع، وهو الأمر الذي لم يتقبله مجتمع لا يجيد التفكير ولا يفضله»، فأحدثت الرواية ردود فعل لم يتوقعها (نجيب محفوظ)، فالرواية كانت أمثلة للعلاقات بالسلطة سواء أكانت هذه السلطة سياسية أم دينية أو مجتمعية، ومن هنا انزعج الجميع من قدرة رواية على تعريتهم وفضحهم، وصارت الرواية خطيئة (نجيب محفوظ) لدى الجميع، لم تعد مجرد رواية طرح فيها محفوظ أسئلته حول العدل والحرية، بل صارت تمثيلاً للحكاية مع السلطة آنذاك، والرقابة حكاية المجتمع نفسه وتوقعه للتفكير خارج الخطوط الحمراء، أما بداية الحرب على الرواية يقول (محمد حسنين هيكل): «كانت البداية عبر رسائل لقراء غاضبين وصلت إلى الأهرام ورئاسة الجمهورية، وهو ما دفع بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر لأن يسأله (ايه الحكاية)»، لكن (رجاء النقاش) نسب إلى محفوظ قوله: «إن البداية كانت خبراً نشرته جريدة الجمهورية يتهم الرواية بالتعريض للأنبياء، وبعدها بدأت رسائل تحريض اشترك فيها أدباء»، والحقيقة الدامغة أن مجلة المصور المصرية هي التي بدأت المعركة ضد الرواية، يقول (نجيب محفوظ) في هذا الصدد: «بدأت أشعر أن الثورة التي أعطتني الراحة والهدوء بدأت تنحرف وتظهر عيوبها، ومن هنا بدأت كتابة (أولاد حارتنا) التي تصور الصراع بين الأنبياء والفتوات، كنت أسأل رجال الثورة: هل تريدون السير في طريق الأنبياء أو الفتوات»؟
لقد وصف العديد من الأدباء المتدينين في مصر هذا الرواية بأنها إلحاد وعبث بالأديان، وخططوا بحملة لعدم نشر هذه الرواية، وهو الأمر الذي فطن له هيكل مقدماً، فظل ينشر الرواية يومياً وليس أسبوعياً، حتى أتم نشرها، لكن الحملة نجمت في استصدار قرار بوقف نشر الرواية في مصر، أما (نجيب محفوظ) بحكم تكوينه الليبرالي فقد نفر من أي جماعة تدّعي امتلاكها للحقيقة المطلقة، لذلك رفض اقتراح صديقه الروائي عبد الحميد جوده السحار، بأن يلتقي حسن البنا، وبرر رفضه بأنه يكره الإخوان في مصر، وكذلك حزب (مصر الفتاة)، لأنهما تنظيمان فاشيان وانتهازيان، لكن فوز (نجيب محفوظ) بجائزة نوبل للسلام جعلت البعض في مصر من خصومه يشككون في هذه الجائزة ويقولون إنها مكافأة له على روايته (أبناء حارتنا) التي تطعن بالألوهية، وتدعو إلى إلحاد المجتمع.
وأخيراً فإن هذه الرواية (أبناء حارتنا) لم تنشر إلا بعد رحيل (نجيب محفوظ)، فقد نشرتها دار الشروق، بدت وكأنها صك براءة للرواية التي لم تكف عن إثارة الصخب في مصر.