في حياة دبلوماسي وأديب وهب حياته للعلم والقضايا الكبرى … بديع حقي دمشقيٌ في ولادته وسيرته وحقوقيٌ في تعمقه وفلسطيني في التزامه الأدبي والروائي
| سوسن صيداوي - ت: طارق السعدوني
دمشقي الهوى، لسانه نطق بالحق، كلمته المنفتحة على باقي اللغات، جاءت بسلطان واعد بالعبارات والآداب المتنوعة التي بدأ بممارستها منذ عمر غض، ناشراً-بداية سمير التلاميذ-في أول صحيفة للأطفال، من هنا بدأ المشوار وهو بعمر الثانية عشرة. إنه الأديب والحقوقي الدبلوماسي بديع حقي، فأسفاره أغنت مداركه ووسّعت آفاقها، ليكون مطلعا على بلدان بثقافات مختلفة ومتنوعة، ومنها دعّم كلمته وخاض غمار الكتاب مستمتعا وممتعا بكل إبداع أنجبه، فصدر له 14 كتاباً في الشعر والقصة والرواية و11 كتاباً مترجماً. ولأنّ اسمه يجب أن يبقى في الذاكرة مهما انطوى من السنين والأيام، وبمساع حميدة من وزارة الثقافة، اختتم شهر تموز نشاطه الثقافي كالعادة بندوة الأربعاء الثقافية التي تقام في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق، وفي جلستها كرّمت الأديب بندوة قام بإدارتها الدكتور إسماعيل مروة تحت عنوان «بديع حقي كاتب الموقف والكلمة الشعرية»، وشاركه في محاورها كل من: د. أماني محمد ناصر، الباحث غسان كلاس، والروائي أيمن الحسن.
موسيقية الكلمة
كما ذكرنا أعلاه قام بإدارة الندوة د. إسماعيل مروة وكانت له مداخلته «موسيقية الكلمة في روايات بديع حقي» شارحا إسهاب الأديب وغمرة مشاعره الدافقة فيما كتبه: «بديع حقي يستحق منا أن نقف عنده مرات عديدة لتكريمه. ما بين عام 1922و بين عام 2000كانت حياة مثمرة عاشها الأديب، وحياته مليئة بكل إنجاز، حتى بدا بديع حقي قضية إنسانية وجدانية علمية متكاملة. بداية كان ذلك الحقوقي الذي تخرج في جامعة دمشق وحصل من جامعة باريس على الدكتوراه، وهو من أوائل الحقوقيين الذين درسوا في الخارج، وواجهوا عقبات كثيرة لإتمام دراستهم، لأن أديبنا اختار موضوعه القضية الفلسطينية من وجهة نظر حقوقية. عاد حقي من باريس لينتسب إلى السلك الدبلوماسي، وليكون سفيرا ووزيرا مفوضا لعدد من الدول في العالم. إذاً الجانب الحقوقي هو الجانب الأول الذي بقي مخلصا له حتى التعاقد، وكانت له علاقات مميزة مع آل غاندي وعلاقة مميزة مع سوكارنو الأخير الذي ترجم له حقي قصائده إلى اللغة العربية. وبالتالي كان أديبنا في تجواله مثالا للمثقف الحقيقي الذي ينهل من الثقافات ويقدم الصورة الأجمل عن مكنونه. والجانب الثاني لحقي هو الجانب الروائي والقصصي حيث كتب العديد من الروايات والقصص، وفي العودة لما كان يقول المبدع عما قدمه هو نفسه، بأنه نشر الرواية بداية كقصة قصيرة ولكن بسبب النجاح الذي لاقته عاد وقدمها كرواية. وأيضاً لابد من الوقوف عند محور سيتطرق إلى تعلق حقي بالقضية الفلسطينية، فكل شبابنا مدينون له في التعرف للقضية عندما كانت المناهج تسعى للتعريف بها، وفي هذا الوقت كنا أطفالا ونرتاد المدرسة، فـ(التراب الحزين)هي أول مجموعة قصصية تعرف الطفل والطالب العربي بالقضية الفلسطينية، وقد كان حقي هو أول من قدم القضية بأسلوب مخلص محب في تصويرها عبر جمالية الطبيعة والبيارات وأدق التفاصيل. الشيء الثالث والأخير هو بديع حقي كاتب المقالة، كان يكتب المقالة وهي مميزة جداً بأسلوبها القصصي الممتع، وبقي ملتزما بمقالته وكان ينشر زوايا (حديث الصباح) في جريدة البعث. هذا وتوقف د. مروة في مداخلته عند رواية «همسات العكازة المسكينة»المعتمدة في أحداثها على واقعية عايشها الراوي حقي بنفسه، مضيفاً أسلوبا مشوقا على أناقة النص وتزويقه، منغمسا بآلام الطبقة المسحوقة ومعاناتها، إذا يجعل العكازة بطلاً رئيسياً.
الشجرة التي غرستها أمي
تحت عنوان (السيرة الذاتية للشجرة التي غرستها أمي) تحدث الباحث غسان كلاس، عن مدى تعلّق المؤلف نفسه بهذا الكتاب، مكررا قول بديع حقي فيه: «هذا من أحب مؤلفاتي إلى نفسي وأقربها إلى حنايا قلبي ومنازعه، لأنه منوط وموصول بذكرى أمي رحمها الله، مستجليا ملامحها، مصورا طبعها، نافضا خيوطها من سيرتها، المواكبة لمبلج طفولتي وعفرة صباي، من دون أي تزويق أو تزيد في الوصف أو التحليل».
ويضيف كلاس «لقد كان بديع حقي، شاعراً وقاصاً وروائياً وكاتباً وناقداً يتذوق حروف كلماته في إطار ما أسماه مغامرته الإبداعية، ولقد تميّز بأسلوبه الماتع وكلماته المنتقاة وجمله التي تحاكي الشعر عذوبة وأناقة.. يتحدث عن العنادل، وطيور اليمام، وأشجار النارنج والكباد والرمان والجوز والتفاح والتين والمشمش والتوت الشامي.. إلخ، ويروي ما اختزنته ذاكرته من قصص وحكايات عن هذه المعالم وشموخها وعنفوانها، من خلال دخول الكتّاب واحتفال ختم القرآن، ويصل عبر سيرته الماضي بالحاضر وبالجهود المبذولة للحفاظ على سوق ساروجة الحي الدمشقي العريق، إسطنبول الصغيرة، الذي زاره-بعد أن اضطر لبيع بيت العائلة الكائن فيه- متسائلاً: (ماذا أبقى الشارع الجديد من معالم الدار القديمة) كما أضيف إن أديبنا نعِم بشجرة النارنج التي غرستها أمه ونسج حولها ذكرياته وأبدع في ظلها بواكير نتاجه وننعَم – نحن- بما خلّفه لنا من إبداعات أصيلة نتفيأ ظلالها ونتنسم عبقها وأريجها».
في القصص ومضمونها
وفي مداخلة د. أماني محمد ناصر التي جاءت تحت عنوان «قراءة في قصص بديع حقي ومضمونها شارحة تميز بديع حقي في أسلوبه الخاص عن غيره من الأدباء والشعراء، إذ اعتمد الدقة في اختيار مفرداته المتناغمة وما أراد من عباراته، مشيرة إلى إبداعه في الوصف والتصوير، عبر تناغم موسيقي للكلمة، فتقول: «لقد تأثر بديع حقي- في بداية حياته- بدمشق وأجوائها وجمال حاراتها وأشجارها وياسمينها وبيوتها، وتجلى تأثره ذاك في قصصه، كقصة (اللص والعكازة) التي بدأت أحداثها بالقرب من الجامع الأموي أمام مقهى النوفرة المشهور. وفي شق الحوار والوصف لابد لنا من القول إن أديبنا اعتمد على الحوار بين الشخوص في قصصه لإيصال فكرة معينة للقارئ، وتنوعت حواراته بين السخرية والكوميديا والألم الذي تجلى في قصته (التراب الحزين) وهي أيضاً عنوان لمجموعة قصصية له ودُرّست في إحدى الفترات. كما علينا أن نتحدث عن اللغة التي اعتمدها حقي في الحديث بين شخوصه، وخصوصاً عندما كان يكرر عبارات معينة ومفردات محددة في أكثر من قصة واحدة للقاص نفسه، وهذا الأمر كي يكون حاضرا في ذهن القارئ كأنه يفرض عليه وعلى شخصيات القصة سلطته وتأويلاته، على اعتبار أن اللغة القصصية هي الأداة السحرية للتخييل والتي تعيد خلق الواقع وتجسّده على الورق».
في القضية الفلسطينية
وأخيراً تحدث الروائي أيمن الحسن عن(فلسطينيات بديع حقي) في مداخلته وكيف تأثر الأديب بالوجع الفلسطيني وهموم اللاجئين الفلسطينيين، والدم الفلسطيني وحتى حين هبّوا في انتفاضتهم البطولية، يقول: «أبدأ حديثي من العنوان المعبّر (التراب الحزين) فكلمة الحزين هنا، لم تأت للمبالغة، بل أراها كصفة مشبّهة تعني استمرار الحالة، مثلما نقول عن شخص إنه كريم، فهذه الصفة ملاصقة له، فهو طوال عمره شخص كريم. هذا وأحب أن أشير إلى أن القصص التي تحدثت عن القضية الفلسطينية كتبها بديع حقي في فترات متباعدة، ودُونت في كتب لتهبها لونا أراد أن يغيّر من ملامح وألوان الواقع المرير، كي ينفضه ويمهد السبيل إلى وصف حياة أفضل». وعن الصور التي أبدع حقي في تجسيدها لفت الحسن إلى المسافة التي تبعد بين ما يؤلفه بديع في إنتاجه، مؤكداً حقيقة لا تتغير هي عدم تكرار التاريخ، ليتابع: «العمق واضح فيما قدمه لنا بديع حقي ويمكن أن نستشف ذلك من المقارنة بما قدمه عام 1948 وبين ما قدمه في سنين لاحقة، مع بقاء الحقيقة واحدة دون أن تتغير، فالاحتلال هو احتلال، قام بتشريد أهل فلسطين وسطا على الأراضي والبيوت والقرى، وهو الاحتلال نفسه الذي يدّمر الأبنية الآن في مدينة القدس، ويقطع أشجار الزيتون والبرتقال من البيارات والكروم، إذا الهدف واحد هو الاغتصاب والاحتلال. صحيح أن التاريخ لا يتكرر-مع الاحترام لمن يقول غير ذلك-لكنني هنا أمعن النظر في مشاهد متقاربة في ملامحها ودلالاتها، على الرغم من تباعدها زمنيا، ليبقى التأكيد على أن ما قدمه لنا بديع حقي من مشاهد لنكبات الاحتلال وغيرها من الوقائع المؤسفة، كان ينظر إليها ويصوغها من عمق المأساة وفجائعها».