كمدخل ممهد ومبسط ومفكك لموضوع التصعيد التركي الذي يستهدف منبج، غرب الفرات، وكوباني (عين العرب) وتل أبيض ورأس العين وصولاً إلى المثلث الحدودي السوري العراقي التركي شرق الفرات، مع استثناء مدينة القامشلي، في ظل زحمة اللقاءات والتصريحات والبيانات من المفيد أن نبدأ من نقطة تكررت على لسان كل من وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، ووزير الدفاع التركي خلوصي آكار والمتحدث الرئاسي إبراهيم كالن: «نفاد صبر تركيا من الولايات المتحدة بشأن عدم تحقيق تقدم بخصوص المنطقة الآمنة، وبالتالي ترجيح خيار القيام بعمل عسكري أحادي دون الرجوع لواشنطن في حال عدم تحقيق تقدم سريع بالمباحثات التركية الأميركية»، ولكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كعادته تحدث بحدية ورفع السقف كثيراً عندما قال: «أياً كانت نتيجة المفاوضات فالإرهابيون (يقصد قسد) إما أن يدفنوا تحت التراب وإما أن يقبلوا الذل، سنقوم بما يجب القيام به ولسنا بحاجة إلى أخذ الإذن من أحد».
ونقطة البحث هنا: هل فعلاً تركيا قادرة على شن عملية عسكرية في منبج وشرق الفرات دون التنسيق مع واشنطن؟
1- أي عمل عسكري على منبج وشرق الفرات، حيث تتواجد قوات التحالف الدولي، دون التنسيق مع واشنطن ودول التحالف الدولي سيؤدي بالضرورة إلى مواجهة عسكرية بين تركيا ودول التحالف الدولي، فهل تركيا مستعدة وجاهزة وقادرة على تحمل تبعات هكذا مواجهة؟!
2- في حال اندلاع هكذا مواجهة ما مصير القواعد الأميركية الموجودة على الأراضي التركية؟
3- ما مصير عضوية تركيا في حلف الناتو؟!
هذه الأسئلة البديهية تنسف فكرة قيام تركيا بأي عمل عسكري أحادي دون التنسيق مع الولايات المتحدة، وبالتالي يمكن تصنيف هذه التصريحات في خانة الاستهلاك الإعلامي، كخطاب شعبوي موجه للداخل التركي.
إن التوتر المزعوم بين تركيا وأميركا والتصعيد الإعلامي يذكّرني بالتوتر التركي «الإسرائيلي» بعد حادثة انسحاب الرئيس التركي أردوغان من مؤتمر دافوس 2009 إثر مشادّة كلامية مع الرئيس «الإسرائيلي» شيمون بيريز، حيث استقبل أردوغان وقتئذ استقبال الأبطال إثر عودته إلى تركيا، وبينما كانت الجماهير التركية تهتف بحياة أردوغان قاهِر «الإسرائيليين» كانت الطائرات «الإسرائيلية» تشارك الطائرات التركية في قصف مواقع حزب العمال الكردستاني في منطقة جمجو على الحدود العراقية التركية داخل الأراضي العراقية، فتركيا وإسرائيل هما الحليفتان الإستراتيجيتان الوحيدتان لواشنطن في الشرق الأوسط، وأكثر ما يخطر على بالي عند سماع التصريحات والتصريحات المضادة بين الأميركي والتركي، هو رقصة التانغو، حيث يقوم كل راقص بحركة يقابله الراقص الآخر بحركة مقابلة لها ومعاكسة بالاتجاه، ما يؤدّي إلى إنشاء لوحة راقصة متكاملة، وهي هدف الراقصين معاً.
هذا الأمر تعيه جيداً الحكومة السورية، لذلك سارعت الخارجية السورية إلى اتخاذ موقف قد يبدو للوهلة الأولى موقفاً مستغرباً في ظل التصعيد التركي الأميركي، إذ عبّرت الخارجية السورية عن رفضها القاطع لأي شكل من أشكال التفاهمات الأميركية التركية والتي تشكل اعتداءً صارخاً على سيادة ووحدة سورية أرضاً وشعباً، وأن الذرائع التي يسوقها التركي في عدوانه على سورية تكذبها سلوكيات وسياسات هذا النظام الذي شكل ولازال القاعدة الأساسية للإرهاب وقدم له كل أشكال الدعم اللوجستي، وتابع بيان الخارجية السورية منبهاً لخطورة المشروع الأميركي الذي يستهدف كل السوريين، داعياً بعض الأطراف التي تماهت مع هذا المشروع للعودة إلى الحاضنة الوطنية وألّا تكون أداة خاسرة في ظل هذا الاستهداف الدنيء.
بيان الخارجية السورية ليس مردّه قراءة صحيحة لتاريخ وأسس العلاقات الأميركية التركية فحسب، بل بناء على معلومات، فالتمعن بلغة وخطاب بيان الخارجية السورية يصل إلى أن معلومات وصلت لدمشق عن تحقيق تقدم في المباحثات الأميركية التركية بشأن المنطقة الآمنة.
أما بخصوص التصريحات الصادرة عن «مجلس سورية الديمقراطية – مسد» فيصح وصفها بالمتخبطة والضبابية، تارة الموافقة والقبول بفكرة المنطقة الآمنة مع التحفظ على عمقها، وهو موقف كارثي إن صح وتماهٍ مع مشروع عدوك المفترض، وتارة كلام شعبوي مكرر كالذي سمعه الناس سابقاً قبيل كارثة عفرين المحتلة من قبل الجيش التركي منذ آذار 2018، على سبيل المثال سنوقف معركتنا ضد داعش ونسحب قواتنا من دير والرقة باتجاه الحدود السورية التركية فذات التصريح سمعه العفرينيون مع بداية العدوان التركي عليهم، ولكن حقيقة ما جرى: القوات لم تنسحب والمعركة ضد داعش بإشراف واشنطن استمرت، أما عفرين فقد احتلت وسكانها باتوا كلهم مستضعفين، إن كان المهجرين منهم أو القلة الباقين داخل عفرين.
أختم بحقيقة، أتمنى من قادة مسد أن يستوعبوها ويؤمنوا بها ألا وهي: تحصين المنطقة يستلزم عودتهم إلى التفاهم والاتحاد مع دمشق تحت سماء وطننا السوري لنقف جميعاً في وجه الأطماع التركية واسترجاع ما ضاع.