«الاعتراف» يعرض واقعاً صعباً ويقترح خيارات أصعب … شفافية الطرح الفني حققت المواجهة الجريئة مع الذات
| نهلة كامل
ينضج الوقت الذي يتوجه به الفن السينمائي إلى جذور الأزمة السورية والعربية أيضاً، وبين أحداث لا تزال قيد معاناة الختام يقتنص فيلم «الاعتراف» اللحظة الدرامية المناسبة كي يضع كرسي التأمل في هدوء حذر، وربما الاسترخاء على نبض متوتر. كي يسبر أبعاد الواقع السوري والعربي.
ثمار الماضي
ويتميز فيلم الاعتراف للمخرج المبدع باسل الخطيب ومشاركة نجله الشاب مجيد الخطيب في كتابة السيناريو، ومن إنتاج المؤسسة العامة للسينما، بالذكاء والعمق والموقف الواضح الصريح، وهو يصلح لتتويج مرحلة سينما الحرب لديه، ولعله النسخة الأوضح من فيلم «مريم» الرائع، الضارب في أبعاد البيئة العربية، أو الرؤية الأبعد للإرهاب بعد فيلم «الأب» المؤثر، أو الخطوة التي سبقت تصميم الإنسان السوري والعربي على السير فوق الألغام لتجاوز الأزمة، كما في فيلم دمشق- حلب.
يقدم فيلم الاعتراف لقطة درامية تختصر زمنين، هي ثمرة الماضي على شجرة الحاضر، فالعودة إلى أحداث سابقة ليست خياراً فحسب للفيلم، بل حقيقة لا تصلح الرؤية إلا من منظارها، لكننا عادة، لا نجيد الربط، بل لا نريد المصارحة، ونأبى الاعتراف بأن جذور أزماتنا لا تزال قابلة للنمو إذا سقيناها بماء الحاضر.
وتعود خلفية أحداث «الاعتراف» إلى مرحلة تفجر الإرهاب التكفيري وتطرف جماعة الإخوان المسلمين في حقبة الثمانينيات، حيث ينضم عزت يجسده الفنان القدير وائل أبو غزالة، إلى جماعة الإرهاب، وتكتشف زوجته نهلة، وتقوم بالدور الفنانة الرائعة ديمة قندلفت، عمله الإرهابي هذا، فتصطدم به طالبة أن يتراجع عن أفعاله، لكنه يرفض متمسكاً بإخوانه الإرهابيين، فتعمد نهلة إلى الهرب مصطحبة أحد أبنائها، وبعد مطاردة زوجها العنيفة لها، وحين تصبح وحيدة على أرض غريبة، يصادفها أبو جاد، الفنان الكبير غسان مسعود، ويقدم لها السكن ويتكفل برعايتها وابنها الذي يستشهد فيما بعد مع ابنه في حادثة يتسبب بها الإرهاب، لكنها تضطر لمغادرة منزله بعد اكتشافها أنها حامل من زوجها الإرهابي عزت.
لكن أحداث الفيلم تدور في عام 2016 وفي خضم الحرب السورية على الإرهاب الأسود الذي عاد ليضرب البلاد، حين تقرر تيماء ابنة نهلة، تجسدها أيضاً القديرة ديمة قندلفت، بعد وفاة أمها العودة إلى أبي جاد كي يحدثها عن الماضي في جلسة الاعتراف الأخير التي يجب أن تضع الحقائق السياسية والوجدانية والإنسانية في موضعها الحقيقي من المسؤولية عن الأحداث.
وتجسد فكرة «الاعتراف» نقطة الارتكاز المبدعة والناجحة ورؤيته الأعمق والأشمل كي يضع الفيلم إصبعه على موقع الجرح محاولاً وقف خيط الدم النازف في حياتنا، كما تحمله عبء الإبحار في خضم الماضي والحاضر وهو مثقل بالآلام والأفكار التي تقاوم الغرق نحو شاطئ النجاة.
ما وراء الطبيعة والوجوه
ينظر «الاعتراف» إلى الواقع بحزن، وإلى الوراء بغضب، لكنه مصمم على ضرورة السير إلى الأمام بعد اقتلاع الأشواك التي تسد علينا الطريق، وأبطال الفيلم، «نحن» يريدون اقتلاع الأشواك بأيديهم.
ويجيد باسل الخطيب في الاعتراف رسم الاضطراب في العمق، والتوتر في السكون والتأمل في هدوء حذر، وهو بارع في تصوير سلام البيئة الأزلي في حالة التهديد، ويأخذ من عشقه لتفاصيل وأبعاد الأرض استحقاقها للأمان، حيث لا يلوث جمال سهولها وجبالها الخضراء وسمائها الصافية سوى بقعة الإرهاب السوداء التي تكبر تدريجياً وهي تحاول النيل من سلام الإنسان ذاته، والطغيان على مساحة حياته.
إن علاقة باسل الخطيب بالبيئة في «الاعتراف»، كما في كل أفلامه ليست سوى موقف مما يحدث على أرضها، فعلى هذه المساحات المسالمة الشاسعة الغنية والفاتنة تحدث أكبر جرائم الإرهاب، ويعيش الإنسان مطارداً ومهدداً، ولعل المجتمعات العربية في مصر والعراق واليمن وليبيا والجزائر وجنوب لبنان توافقه الرؤية، وتتطابق معه في المشهد الذي لا بد أن يأخذ صفته العربية العامة.
ويأخذ مشهد الاعتراف صفته العامة لأنه يقدم معاناة الإنسان العربي للإرهاب المتطرف منذ عقود، أما أحداثه فليست سوى الفصل الثاني من انفجار حرب مؤهلة دوماً للاندلاع، فهل هي النار من تحت الرماد التي عادت للاشتعال، أم حقيقة أننا لم نستخدم الاستقرار لجعله أرضية ممهدة لبناء سلام راسخ.
تعود تيماء في الفصل الجديد للإرهاب بوصية من أمها، إلى أبي جاد لتسأله عن الماضي، وللمرة الأولى يأبى العودة إلى ذكرياته المؤلمة، ليعود فيختار الاعتراف عندما يجده الخيار الوحيد لتفسير الحاضر، فجماعة الإرهاب عادت تريد الثأر ممن استطاعوا القضاء عليها في الثمانينيات.
وها هو الماضي يعيد إنتاج نفسه: الإرهابي عزت يلاحق ابنته بعدما أصبحت عضواً ناشطة في العمل الاجتماعي لمداواة جراح الحرب، وها هو أبو جاد يحتضن الابنة تيماء من جديد، ويفسر لها علاقة الحاضر بإرهاب حقبة الثمانينيات، وها هو جاد يجسده المتألق دوماً محمود نصر، يقف إلى جانب تيماء ويستشهد وهو ينقذها من عصابة الإرهابيين.
ويختار باسل الخطيب أن يخوض في الأبعاد الأعمق للزمن والحدث والبيئة والشخصيات، فالاعتراف هو البوح في ما وراء الوجوه المعبرة والنظرات القلقة، وهو تصوير لزوايا الأرض وكأنها تميد مع الأحداث في انبساط وانقباض، وفي هبوط إلى بؤر الإرهاب أو صعود إلى قمم المواجهة في أعالي الجبال وكأنها تترجم اللغة الأخرى للبيئة.
إن الكاميرا وهي ترصد الملاحقات الشرسة فوق جمال الأرض وزوايا الأشجار كانت ترافق ذلك التوتر القلق لشخصيات فيلم الاعتراف الذي أبدع في اختيار وتحريك طاقم الممثلين في زمنين ومواجهتين.
ويؤدي هذا الاتقان في تقديم ما وراء الأحداث والشخصيات والبيئة إلى تجسيد «الاعتراف» كمضمون، ويبرز الحقائق المضطربة التي يعيشها الإنسان مهما كان مظهره الخارجي هادئاً، وفي حالة صمت حذر كما عكست شخصية الفنان الكبير غسان مسعود في دور أبي جاد.
قراءة غسان مسعود للاعتراف
يحمل الفنان الكبير غسان مسعود عبء إيصال رسالة الفيلم الصعبة أي الاعتراف، وهو الهادئ خارجياً وكأنه يعيش حالة من الأسى بعد معاناة مؤلمة في الماضي هو ذاكرة المجتمع، وذكريات الإنسان وضميره الحي وإنسانيته التي لا تفقد مشاعرها النابعة من وجدان وحب عميق لا ينطفئ تحت رماده، إنه سيرة الموازي والمعادل في الخير للشر المتأجج تحت رماد الماضي.
غسان مسعود هو خيار باسل الخطيب المتألق، كما كان دريد لحام في دمشق- حلب، وأيمن زيدان في الأب، هو خيار ذكي وكأن السيناريو قد كتب خصيصاً من أجل فناننا العالمي ليؤدي قضية كبرى لا يقدمها سوى كبار النجوم في فن السينما.
فالفنان الكبير يحمل داخله طاقات كبيرة من التعبير الداخلي على وجه هادئ وقلق في آن معاً. وقامة شامخة كأنها صامدة في مواجهة مع القدر، هو أبرع من يمثل هذا الهدوء الخارجي فوق التوتر. مجسداً شخصية إنسانية غنية المشاعر، وأحداثاً داخلية خافية تحت سطح ساكن.
ويبدع غسان مسعود في تجسيد قضية الاعتراف، ويتفوق في تحمل عبء الكشف عما وراء الحدث والواقع والنفس البشرية، عن حقيقة الإرهاب في الماضي قبل الحاضر. يعود إلى الجذور وقد أدرك أن النسيان أو التجاهل الذي مارسه عقوداً، لم يستطع تطهير الواقع من خلاياه النائمة المستعدة للانقضاض كلما سنحت لها الفرصة من جديد.
فيلم الاعتراف يقدم لنا قراءة لقضية الإرهاب في سورية والبلدان العربية وقد جاء اختيار الفنان الكبير غسان مسعود كأفضل من يقرأ علينا الماضي والحاضر، فكان لشخصية أبي جاد مصداقية خاصة لا يستطيع الفيلم أن يكون مقنعاً من دونها. وقد قدم فناننا الكبير لهذه الشخصية وجدانية داخلية، وعيناً مراقبة حزينة، وروحاً قلقة، وضميراً يقرر في اللحظة المناسبة الاعتراف لأن الجيل الشاب ومواصلة الحياة يستحق.
شفافية غسان مسعود في الاعتراف قراءة عميقة للإنسان في مجتمعه المضطرب وللروح في ظروفها المادية ووجعها الواقعي.. كيف يستطيع ممثل تجسيد كل هذه المعاني؟!!
هذا هو سر الفنان المبدع الكبير غسان مسعود وهو يؤدي حالة إنسانية مركبة، وشخصية اختصرت في معاناتها بيئتها العامة ابتدعها سيناريو باسل ومجيد الخطيب إلى حد التقمص.
حالة عربية عامة
سوف يتخطى فيلم «الاعتراف» حدود مجتمعنا السوري الجغرافية، وهذا إبداع سينمائي ذكي في وقته المناسب، وسيكون شاهداً جريئاً وصريحاً وهو يصور مقطعاً عميقاً بالطول والعرض للبيئة السورية والعربية بشكل عام، وأعتقد أنه سوف يجد التفهم والتعاطف أينما عرض، عربياً، حيث عملت السياسات والمصالح الخارجية على تبني التطرف والإرهاب المسلح، وكانت تستثمرها للانقضاض على ثرواتنا الوطنية.
ويطرح الاعتراف على المجتمع العربي قضية مستقبل الأجيال الشابة ومصيرها، فالشهادة بمواجهة الإرهاب هو خطر مزمن، والصراع على أبوة الجيل الجديد ما زال قائماً، فمن والد تيماء، كما يسأل فيلم الاعتراف، هل الإرهابي عزت، أم الإنساني أبو جاد.
إن تيماء تختار أبوة أبي جاد بعد اعترافه، وترفض أبوة الإرهابي عزت، وكأنها تختار المواجهة،التي لا بد أن تتصدى لها عقيدة جيش مؤمن بوطنه، وقادر على حماية شعبه.
باسل الخطيب يختار المواجهة في الاعتراف ولو كانت فوق أرض ملغمة بالإرهاب كما في فيلم دمشق-حلب، لكنها هنا مواجهة مع الذات بالدرجة الأولى،… فيلم الاعتراف يحمل لنا رسالة صعبة لكنه يقترح أيضاً الخيارات الأصعب.