في قراءة لتجربة الوحدة تعتمد الوثيقة لا العاطفة … عبد الناصر في افتتاحه لمعمل الدبس دعا الاستثمارات للعودة وأمّم المصنع بعد سنتين
| إسماعيل مروة
تعدّ حقبة الوحدة بين سورية ومصر من أكثر الأوقات إشكالية في قراءتها وتحليلها ومعرفة أسبابها في الحدوث، وفي الإخفاق، وفي معرفة مجرياتها اليومية، وقد صدرت دراسات كثيرة، ولكنها تحمل طابع الدارس الفكري أو الجهة التي يميل إليها، أو القطر الذي ينتمي إليه، ففي جل الدراسات الصادرة في مصر تركز الدراسات على أن مصر هي التي ضحّت وأن السوريين هم من دمّروا الوحدة، وفي سورية نجد نوعين من التظلم، الأول يرى أن مصر وتصرفات المصريين هي التي كانت وراء إخفاق تجربة الوحدة، أما النوع الثاني من التظلم في الدراسات السورية، فيعود للانتماء الفكري للكاتب، فقد يرى بعض الكتاب أن السبب في الأشخاص من سورية ومصر على السواء، وبعضهم يرى السبب في شكل الوحدة وهكذا.
التأميم وعبد الناصر
تتنوع الأسباب التي أدت إلى إخفاق الوحدة، وفي كتب وقصص لأناس ينتمون إلى المؤسسة العسكرية أظهروا الأسباب في الضباط المصريين، وفي كتب اقتصاديين نجد الأسباب محصورة في الاقتصاد، وفي الكتب السياسية نجد الصراع محتدماً بين الساسة المصريين والسوريين ورؤاهم، وحين جمعني القدر بلقاء نادر أفخر به مع الأستاذ الديبلوماسي والوزير الأسبق عبد الله بيك الخاني تفتحت رؤيتي على جوانب غاية في القيمة والأهمية، فالأستاذ الخاني لصيق رئيس الجمهورية في حينه الراحل شكري القوتلي، وفي حديثه معي قال إن الوحدة وقّعت بقلم كان بحوزته لأنه كان مع الرئيس القوتلي في المراسم والاجتماعات، وهذا القلم أهدي إلى مركز التوثيق ليكون محفوظاً مادة وذكرى في حياة السوريين، المهم أنني وجدت شخصاً مختلفاً، فهو وطني ونبيل، لا ينتمي إلى يسار أو يمين، لا إلى الفقراء ولا إلى الأغنياء، إيديولوجيته الوحيدة هي الوطن، ينتمي إلى سوريته بامتياز، ويخلص لأفكاره وقناعاته، هو وحدوي في العمق ولكنه يحافظ على الشخصية السورية ويحترمها، كان مع الوحدة، وله آراء ناقدة، أحب عبد الناصر واحترمه، لكنه يفرّق بينه وبين من حوله من الساسة والقادة، بكل هذه المواصفات يكتب عبد الله الخاني مقدمة لكتاب الصديق الباحث الدكتور سامي مبيض مقدماً رأياً مهماً لا يقوم على الضدية والعداء، وكذلك لا يعترض على النقد، ولنقرأ ما كتبه الخاني بعلمية وحب واحتياط: «قام الرئيس جمال عبد الناصر بأول زيارة للِإقليم الشمالي مصطحباً معه أعضاء مجلس قيادة الثورة المصرية، ولقي من الشعب السوري الترحاب والحماسة ما لم يعهده في مصر، وما لم تعرفه سورية من قبل، وعندما قابله بعض كبار الصناعيين ورجال الاقتصاد في سورية، وعرضوا عليه ريبتهم من تطبيق الأنظمة الاشتراكية المطبقة في مصر، طمأنهم إلى أن ذلك لن يحصل، فارتاحوا لوعوده وكان صادقاً في أقواله وأميناً، لأنه كان يقدر الفارق بين الإقليمين. إلا أن بعض مدعي الاشتراكية في سورية، وهم لا يعلمون من الاشتراكية سوى نزع ملكية الأغنياء، اضطر تحت إلحاحهم وضغوطهم، وبدعوى أن الوحدة بين البلدين لا يمكن أن تتم إلا بتوحيد الأنظمة والقوانين، اضطر بداية إلى تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، ثم تأميم المؤسسات الاقتصادية في الإقليم الشمالي، فكان ذلك خطأ جسيماً تحملته سورية بصبر، احتراماً لمفهوم الوحدة، وتقديراً للرئيس جمال عبد الناصر» هذه الحالة قلّ أن نجدها في كتاب، وذلك يتمثل في نقد التجربة وتبرئة شخص الرئيس من تبعات ما حصل، وكل ما حصل كان تحت إلحاح أصحاب الأغراض، والذي يوقف عنده باحترام هو أن الدكتور سامي مبيض ينطلق من منطلقات مختلفة ومخالفة لما ينطلق منه الخاني، وبقي كل منهما على رأيه واحترامه لرأي الآخر، وبقي هذا التقديم لكتاب يصرّح صاحبه بأنه مختلف في منطلقه.
الغاية والوضوح
بعد تقديم الأستاذ الخاني يحدد د. مبيض غايته من الكتاب في مقدمة موجزة ومؤثرة «في هذا الكتاب قصة تجار وصناعيين نحتوا في الصخر لكي يشيدوا مصانع كانت مفخرة لكل الوطن، تحولت بشطبة قلم إلى سراب، أعده مؤلماً بواقعيته، يحاول تحريض القارئ على التفكير بالوحدة وناصرها، من الممكن أن يلمس فيه البعض جانباً من القسوة والانحياز، لكن الحقيقة وقعها أقوى وأشد وأقسى، فهو ليس انحيازاً بقدر ما هو انتقاد، نقد لوحدة، كل من عاشها تمناها أفضل، وليس من المجحف بحق الوحدة تسليط الضوء على أخطائها، لأنها كانت وستبقى حلماً وهدفاً لكل العرب».
نلاحظ أن هذه العبارة المقتبسة من مقدمة د. مبيض فيها الخلاصة التي تحمل جوانب عدة، فهي من ناحية تشريحية مؤلمة، وهي تذكير بالبورجوازية السورية الوطنية التي كانت مخلصة في منح سورية مكانة صناعية متقدمة، ومن ناحية مهمة نجد أن الكاتب لا يتفق مع الأستاذ الخاني في تحميل المسؤولية للمحيطين بعبد الناصر، وإنما المسؤول هو جرة القلم، أو شطبة القلم حسب تعبيره، التي كانت قادرة على تحويل الواقع والحلم معاً إلى سراب.. هذا كله يستدعي عند المؤلف إعادة التفكير بالوحدة وناصرها، وإضافة الوحدة إلى ناصر توحي بأن المؤلف ينحي جانباً كل المؤثرات، ويرى أن ما جرى يرتبط ارتباطاً بناصر وشطبة قلمه، هذا وإن كان مؤلماً إلا أنه الحقيقة، فقد اعتدنا نحن العرب أن نعفي الكبار من المسؤوليات، ونزعم أنها تصرفات للطبقة الثانية أو الثالثة أو التنفيذيين، متناسين أن كل ذلك ما كان ليحدث لولا أن المسؤول استجاب للضغوط، هذا في أحسن الأحوال، وربما كانت الحقيقة أن الضغوط تم رسمها بالاتفاق والتعاون بما يناسب رؤية المسؤول الأكبر، وهو في هذا المقام ناصر، وهذا فيه الكثير من الحق، لأن ناصر كان رمزاً وقدرة ومشروعاً، وأي إعفاء له مما جرى يحوله إلى منفذ للآراء والضغوط.. وربما كان مبيض ينتمي إلى الطبقة التي يحق لها أن تتحدث وتشرّح، فهو سليل البورجوازية الدمشقية الوطنية، ومن المتضررين بما حدث، لكنه من الباقين في سورية، ومن الباحثين الذين يريدون مقداراً من الصدقية التاريخية لإنصاف البورجوازية السورية، مع أنه يجد ذلك صعب التحقيق.
محطات في التأميم
حرص مبيض كعادته على الوثيقة، ومن الصفحات الأولى أراد أن يرد على النيات الطيبة لجمال عبد الناصر، وبطريقة مباشرة من دون أي إساءة، وفي عدد من الوثائق يظهر مسؤولية ناصر المباشرة عن التأميم ونتائجه، وليس كما يقول محبوه وأصحاب النيات الطيبة «حتى العقيد عبد الحميد السراج، رجل المباحث الأشهر لم يبد حماسة لفكرة تأميم المصانع، مكتفياً فقط بتأميم المصارف وشركات التأمين، اقترح مشاركة الدولة بربع رأس مال المصانع وقال بوضوح: «سيدي أخاف على الوحدة من نقمة تجار دمشق وحلب، استدعاه عبد الناصر في الصباح الباكر إلى داره في منشية البكري حيث وُبخ توبيخاً شديداً على موقفه الرمادي بحضور مدير المخابرات المصرية صلاح نصر، ووجه إليه عبد الناصر كلاماً قاسياً».
وفي شهادة ثانية لواحد من أهم رجالات سورية السياسيين خالد العظم يقول: «الكثير من المسؤولين المصريين، إن لم تكن أغلبيتهم يجهلون واقع سورية الاقتصادي والاجتماعي».
«لم تكن الدولة السورية تمارس أي سلطة على المصانع قبل صدور قرار التأميم عام 1961 إلا في حال مخالفتها لقانون العمل أو الأحكام العامة في البلاد.. والشيشكلي كان يقول باستمرار: إن مهمة الدولة يجب أن تقتصر فقط على جبي الضرائب، وهي لا تتدخل في الحياة الاقتصادية إلا فيما يتعلق بسن القوانين».
وفي نقل يحمل من الألم ما يحمل، ويحمل عبد الناصر المسؤولية، نقرأ «عند قيام الوحدة، سأل عزت الدبس رئيس مجلس إدارة معامل الدبس الرئيس عبد الناصر هل نكمل العمل يا سيادة الرئيس؟ أم إن هناك قرارات اشتراكية على الأبواب تمنعنا من الاستمرار؟
رد عبد الناصر بالنفي القاطع، وعرض أن يفتتح المصنع بنفسه خلال زيارته لدمشق لكي يطمئن أصحابه إلى مستقبل استثماراتهم في الجمهورية العربية المتحدة، وبالفعل افتتح عبد الناصر المنشأة الصناعية يوم 23 آذار 1959 وألقى خطاباً حماسياً قال فيه: إنه يجب على السوريين المهاجرين أن يعودوا إلى بلادهم للاستثمار فيها كما فعل أبناء الدبس!
بعد سنتين وأربعة أشهر أمم عبد الناصر المصنع، ولم يدفع أي تعويض لأصحابه.
أعيد المصنع إليهم في فترة وجيزة أيام الانفصال، ليعاد تأميمه مرة ثانية في ربيع عام 1964».
نتائج التأميم
تحدث الدكتور مبيض عن التأميم والإصلاح الزراعي في مراحله المتعددة، واستعرض نتائجه الكارثية في إغلاق المعامل، ومصادرة الأملاك، وهجرة رؤوس الأموال، وقد تحدث عن الطرائق التي تم فيها تطبيق التأميم من أناس لا علاقة لهم بالصناعة، ولعل من المهم الإشارة إلى براعته في عرض لقاءات عبد الناصر بالصناعيين والمصرفيين، وطريقة تعامله مع المسؤولين الذين يتحفظون على التأميم مثل الدكتور وجيه السمان الذي استقال من الوزارة فقبلت استقالته وترك الموقع شاغراً ليتم التعامل بأريحية في موضوع التأميم.. ويذكر تحفظ حاكم مصرف سورية على الدمج ونقل الأشياء إلى بنك مصر، ويشكر له ذلك لأنه كان واعياً بأن الأمور إن انتهت، فكل الودائع ستضيع لأن الدولة التي تحمل الاسم انتهت!
ولعل أهم نتيجة للتأميم كانت الانفصال، وعزل سورية عن دول الجوار وفقدان منتجاتها في أسواق الدول العربية، ونفاد جميع المواد الأولية والأموال الاحتياطية، وكانت النتيجة حسب قول سامي مبيض من الوثائق «بدك تطول بالك وبدك تصلي على النبي..» وتبع ذلك حسب قول مبيض: «قرر تجار الشام وصناعيوها مجتمعين، ولو بالسر ومن دون أي تنسيق مباشر فيما بينهم مساندة الانقلاب العسكري الذي أطاح بدولة الوحدة فجر يوم 28 أيلول 1961 أي بعد أقل من ثلاثة أشهر على صدور قرارات التأميم».
أما الكارثة الأهم برأي مبيض جاءت في نقل سابق، فبعد أن أعيدت مصانع الدبس إلى أصحابها أعيد تأميمها مباشرة من حكومة ما بعد الانفصال، وهذه الخطورة تتمثل في استمرار سياسة غير واقعية لم تنته بانتهاء الوحدة، بل صارت سياسة فكرية لدى حكام سورية، وهذا ما دعا رؤوس الأموال للبقاء خارج سورية!
عبد الناصر والتأميم كتاب توثيقي قد لا يتلاءم مع هوى القارئ، لكنه وثيقة وأختم بما نقله عن هيكل «اشتد الخلاف بين السراج والمشير، فذهب الرجلان إلى القاهرة لمقابلة الرئيس على متن طائرة واحدة، اجتمع عبد الناصر مع السراج خمس مرات لمدة عشرين ساعة، وعاد بعدها السراج إلى دمشق منفرداً ومستقيلاً من جميع مناصبه، في إشارة للجميع إلى أن عبد الناصر قد حسم خياره وفضل الوقوف مع صديقه المصري على حساب أكبر مؤيديه من السوريين»، ويبقى السؤال مشروعاً: هل يتحمل عبد الناصر مسؤولية إخفاق الوحدة؟ بلا ريب: نعم.