أهداف التنمية المستدامة لا يمكن تحقيقها دون مساهمة التعليم العالي … التحديات المعرفية والثقافية تحتاج أجيالاً من الأكاديميين الجدد والمهنيين المهرة
| أ. د. وائل معلا - رئيس جامعة دمشق سابقاً
استرعى انتباهي مقال نشر مؤخراً في الطبعة العالمية من المجلة الإلكترونية البريطانية «عالم الجامعات» University World News التي تعنى بأخبار التعليم العالي في جميع أنحاء العالم، في عددها الصادر بتاريخ 20 تموز 2019، أكد أهمية دور التعليم العالي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تعدّ إطاراً متفقاً عليه دولياً للتصدي للفقر وعدم المساواة والمرض وتغير المناخ، معتبراً أن مساهمة التعليم العالي أمرٌ لا بد منه لتحقيق تلك الأهداف من خلال البحث العلمي، والتعليم، والمشاركة المجتمعية.
كانت تلك هي الرسالة الرئيسية لبيان أصدرته الرابطة الدولية للجامعات International Association of Universities، والوكالة الجامعية للفرانكفونية Agence universitaire de la Francophonie، ورابطة جامعات الكومنولث Association of Commonwealth Universities في المنتدى السياسي الرفيع المستوى للأمم المتحدة بشأن التنمية المستدامة الذي عقد في نيويورك خلال الشهر الماضي ونظّمته «مبادرة التعليم العالي للاستدامة» Higher Education Sustainability Initiative.
في هذا المؤتمر، قامت المنظمات الجامعية الثلاث التي تمثّل مجتمعة أكثر من 2000 جامعة على مستوى العالم، برفع الصوت للدفاع عن أهمية التعليم العالي من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والدعوة إلى شراكات داخل القطاع وخارجه لتحقيق الأهداف المنشودة.
وفي البيان الختامي، أكد المؤتمرون أنه «لا يمكن تحقيق أي هدف من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر من دون مساهمة التعليم العالي والبحث العلمي. فمن خلال البحوث العلمية، تلعب الجامعات دوراً فريدًا في إنتاج معارف وابتكارات جديدة لمواجهة التحديات العالمية. ومن خلال التدريس، تطوِّر الجامعات أجيالا من القادة الجدد والمهنيين المهرة الذين سيدفعون قدُماً عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية. ومن خلال المشاركة المجتمعية، تعمل الجامعات مع مجموعة متنوعة غنية من أصحاب المصلحة بما في ذلك الحكومات، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، للمساهمة في التأثير المحلي والوطني والعالمي.
ويشكِّل المنتدى الذي يعقد سنوياً وتستمر أعماله على مدى أسبوعين خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة للتعليم العالي الذي كان، في السنوات السابقة غائبا إلى حد كبير عن المناقشات المتعلقة بالأهداف الإنمائية للألفية Millennium Development Goals، وعن أهداف التنمية المستدامة التي تلتها. تُرفع النتائج التي يخرج بها المنتدى إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول من كل عام، وتُحال إلى اجتماع يُعقد على مستوى رؤساء الحكومات للنظر في ما يجب القيام به للحفاظ على المسار الصحيح لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030.
وقد تم في المنتدى الأخير تسليط الضوء بشكل خاص على الدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعات في تحقيق الهدف الرابع SDG4 من أهداف التنمية المستدامة (وهو هدف التعليم)، الذي لم يلق حتى الآن إلا التأييد الكلامي من دون القيام بالكثير على أرض الواقع، ولا يزال يفتقر إلى طريقة جيدة لقياس مساهمة التعليم العالي في تحقيق هذا الهدف، أو أي من الأهداف الأخرى. وبالتالي، فإن هدف المنتدى هو دعوة الأمم المتحدة والوكالات العالمية للاستجابة للحاجة إلى أنظمة تعليم عال قوية على مستوى العالم لتحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة وغيرها من الأهداف.
إطلاق شبكة جديدة
أطلق المنتدى شبكة جديدة – أعلن عنها في نيويورك – لزيادة مساهمة الجامعات في أهداف التنمية المستدامة. ودعا في البيان الذي أصدره الجامعات لأن تسخِّر جهودها لهذا الغرض. وهذا يعني العمل في هذا الاتجاه على صعيد المناهج الدراسية، والبحث العلمي، والحرم الجامعي، في آن معاً.
تلعب الجامعات بطبيعة الحال دوراً مهماً في حل المشكلات العالمية، لكنّ استخدام أهداف التنمية المستدامة كإطار مرجعي يشجّع البحوث العلمية متعددة التخصصات، ويحفّز الطلاب على مواجهة التحديات كأفراد، ويعزز النظر إلى الجامعات على أنها منارات موثوقة لديها دور حاسم في التنمية. كما أن الشبكة الجديدة ستدعم جهود الجامعات للمشاركة المباشرة في أجندة أهداف التنمية المستدامة، كأن تدمج التنمية المستدامة في عملياتها، أو من خلال المشاركة بالمواد التعلمية، أو عن طريق تطوير إستراتيجيات بحثية تركِّز على أهداف التنمية المستدامة.
وتستند المبادرة الجديدة إلى الدور الطويل الأمد الذي لعبته الرابطات الجامعية الثلاث للترويج لأهمية التعليم العالي في التنمية المستدامة، وإلى خبراتها في إنشاء الشبكات التي تعالج التحديات العالمية وربطها فيما بينها، وإلى مشاركاتها مع المبادرات الحالية كمبادرة (SDG Accord) التي أطلقت في عام 2017 من جمعية البيئة للجامعات والكليات The Environmental Association for Universities and Colleges(EAUC)، وبدعم من أكثر من 60 شبكة من شبكات الاستدامة والشركاء الدّاعمين؛ وتهدف هذه المبادرة إلى تحفيز التعليم العالي على لعب دور حاسم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والدفع باتجاه تطوير هذا الدور؛ وكذلك مبادرة «شبكات حلول التنمية المستدامة» Sustainable Development Network Solutions التي تعمل منذ عام 2012 تحت رعاية الأمين العام للأمم المتحدة لدعم تنفيذ أهداف التنمية المستدامة واتفاق باريس بشأن التغير المناخي. وستدعم الشبكة الجديدة التعاون بين أعضاء الرابطات الثلاث، وستعمل كمنصة دفاع قوية لإظهار مساهمة قطاع التعليم العالي لجمهور أوسع.
ولكن هناك نقاط أخرى يجب على الجامعات معالجتها كما تقول الدكتورة جوانا نيومان Joanna Newman، الأمين العام لرابطة جامعات الكومنولث؛ إذ يتعين على الجامعات أن تغير أسلوب عملها، وأن تستثمر في المقاربات المتعددة التخصصات وتقدّرها حق قدرها، وتقيّمها بما يتيح التقدم الوظيفي للأكاديميين ويُحتسب ضمن معايير ترقيتهم. وقالت نيومان: «بالحديث عن أهمية البحوث المتعددة التخصصات بالنسبة لأهداف التنمية المستدامة، فإن معظم الجامعات تجد صعوبة في الترويج لهذا التوجه لأن العاملين في البحث العلمي المتقدّم لا يزالون ينزعون إلى التفكير والعمل بشكل منعزل».
الشراكات المنصفة
لقد رحّب العديد من الجامعات بإطلاق الشبكة الجديدة، وهذا ما عبّر عنه البروفيسور آدم تيكيل Professor Adam Tickell، نائب رئيس جامعة ساسكس في المملكة المتحدة – موطن أحد الأقسام الرائدة التي تعنى بدراسات التنمية في العالم- إذ اعتبر أن إدراك الجامعات الكامل لإمكاناتها وقدرتها على مواجهة التحديات العالمية يتطلّب بناء شراكات منصفة مع المؤسسات الأخرى وخارج القطاع، وعلى الجامعات العمل مع الشركاء على ابتكار حلول للمشاكل التي يحددونها معاً، والشبكة الجديدة هي منصة للجامعات لبناء مثل هذه الشراكات.
وقد أيدت جامعة مانشستر على لسان نائب رئيسها ضرورة أن تعمل الجامعات بشكل متزايد على مواءمة إستراتيجياتها وعملياتها مع أهداف التنمية المستدامة، لتصبح منارات للاستدامة في مجتمعاتها وبلدانها. مؤكداً أهمية تبادل الممارسات الجيدة من خلال الشبكة الجديدة في تعزيز مساهمة قطاع التعليم العالي في التنمية المستدامة، واعتراف صانعي السياسات والجمهور الأوسع بدور هذا القطاع المهم في هذا المجال.
جامعاتنا…. والتنمية المستدامة
على الرغم من أن العديد من البرامج التعليمة التي أحدثت في جامعاتنا يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة، فإننا ما زلنا نفتقر إلى إستراتيجية وطنية لدمج مفاهيم التنيمة المستدامة في برامجنا التعليمية وفي بحوثنا العلمية، وفي ممارساتنا على مستوى الحرم الجامعي. ولم توضع حتى الآن أي خطط لإدماج مفاهيم التنمية المستدامة في المناهج الجامعية، باستثناء جهد قامت به كلية التربية في جامعة دمشق بالتعاون مع منظمة اليونسكو في العام 2011 فوضعت دليلاً توجيهياً لإدخال مفاهيم التنمية المستدامة في برامج كلية التربية، ودراسة أعدّها في عام 2006 الدكتور محمد نجيب عبد الواحد معاون وزير التعليم العالي لشؤون البحث العلمي آنذاك، لمصلحة الصندوق السوري من أجل التنمية الريفية المتكاملة (فردوس)، لكن من غير الواضح ما إذا لقيت توصيات هاتين الدراستين طريقها للتطبيق.
وفي عام 2009 كانت جامعة دمشق تخطط لإقامة مؤتمر دولي عن التعليم العالي والتنمية المستدامة مساهمة منها في عقد «التعليم من أجل التنمية المستدامة» وذلك للاستفادة من الخبرات العالمية والاطلاع على الممارسات الجيدة في هذا المجال، وحصلت من جامعة الأمم المتحدة في اليابان على وعد بدعم هذا المؤتمر. إلا أن مجلس التعليم العالي ارتأى في ذلك الحين، أن يكون هذا الموضوع، نظرا لأهميته، عنواناً لأسبوع العلم في العام التالي. لكنّ ظروفاً حالت دون تحقيق هذا الأمر، وخصّص أسبوع العلم لموضوع آخر.
ومن أهم البرامج التي أحدِثت في جامعة دمشق والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأهداف التنمية المستدامة، ماجستير «هندسة المدن والتنمية الحضرية المستدامة» الذي أحدث في كلية الهندسة المعمارية عام 2008 بالشراكة مع جامعة مارن-لا-فالييه الفرنسية Marne-la-Vallée (التي أصبحت فيما بعد Paris Est)، ثم انتقل إلى المعهد العالي للتخطيط الإقليمي عند افتتاحه. والعديد من المساقات التعليمية في هذا البرنامج، كعلم الاجتماع الحضري والبيئة المدينية، وقوانين وتشريعات التنظيم العمراني والبيئة، وأساسيات التنمية المستدامة، والمواصفات البيئية للمباني والبنى التحتية والأحياء، والتجديد العمراني والتقنيات البديلة لحماية البيئة، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأهداف السبعة عشر للتنمية المستدامة. كذلك أجري في المعهد العديد من البحوث العلمية في نطاق رسائل الماجستير التي حققت في مضمونها الارتباط العلمي والبحثي الواضح بين الجانب العمراني المتمثل بالتجديد الحضري، وبين مفهوم الاستدامة.
الاستدامة على صعيد الحرم الجامعي
لا ينبغي أن يقتصر دور الجامعات على إدماج مفاهيم التنمية المستدامة في برامجها التعليمة وبرامجها البحثية فحسب، بل لا بدّ أن يتعداه إلى ممارساتها الفعلية على صعيد الحرم الجامعي….. فالعديد من الجامعات في العالم وضع خططاً لتحويل حرمه الجامعي إلى «حرم أخضر» أي صديق للبيئة، وذلك بتخفيف انبعاثات الكربون، واستخدام الطاقات المتجددة، وإعادة تدوير المياه، وغيرها من الإجراءات. ومن الأمثلة المهمة عن ذلك «حالة الطوارئ المتعلقة بتغير المناخ» الذي أطلقته جامعة بريستول البريطانية University of Bristol، وأكدت فيه التزامها القوي والإيجابي باتخاذ إجراءات ذات صلة بالتغير المناخي، وتعهّدت بأن تعمل جاهدة للحد من انبعاثات الكربون التي تتسبّب بها. وقد سبق أن خفّضت الجامعة انبعاثات الكربون بنسبة 27% منذ عام 2005 بفضل مجموعة من التدابير التقنية، بما في ذلك عناصر التحكم في التدفئة واستخدام إضاءة بصمامات ثنائية باعثة للضوء (LED). وتعهدت بأن تصبح محايدة للكربون بحلول عام 2030، أي أن تنحفض انبعاثاتها من الكربون إلى درجة الصفر. وفي شهر آذار من عام 2018، أعلنت الجامعة عن خططها للتخلي بالكامل عن جميع الاستثمارات في شركات الوقود الأحفوري في غضون عامين.
ومن جهتها، تعدّ كلية بوودوين Bowdoin College في ولاية مين الأميركية مثالا مهماً آخر؛ فقد أصبح حرمها الجامعي محايدا للكربون في عام 2018، أي قبل عامين من الجدول الزمني الذي تعهدت به كجزء من التزاماتها بشأن الحد من التغير المناخي.
ومن الجدير بالذكر في هذه السياق أن منظمة الأمم المتحدة للبيئة أصدرت مجموعة أدوات Greening university Toolkit لمساعدة الجامعات على تصميم وتطوير وتنفيذ إستراتيجيات للحرم الجامعي الأخضر ذي الكفاءة في استخدام الموارد ومنخفض الكربون.
الاستدامة ضرورة ملحة وليست خياراً
يحظى التعليم العالي باهتمام أكبر من أي وقت مضى، وخاصة ما يتعلق بأهميته في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتتمتع الجامعات بمكانة فريدة من نوعها لقيادة عملية التنفيذ القطاعي المشترك لأهداف التنمية المستدامة، لكونها مصدراً لا يقدر بثمن للخبرة في مجال البحث والتعليم في جميع قطاعات الأهداف المستدامة، بالإضافة إلى اعتبارها جهة فاعلة محايدة ومؤثرة على نطاق واسع.
ومن هذا المنطلق، لا بد أن تعمل جامعاتنا على إدراج مفاهيم التنمية المستدامة في برامجها التعليمية والبحثية، وكذلك في ممارساتها العملية. وقد يكون ذلك بناء على إستراتيجية وطنية يضعها مجلس التعليم العالي. ولم يعد هذا الأمر خيارا نأخذ به أو لا نأخذ، بل أصبح ضرورة ملحة ومبدأً تلتزم به كل جامعات العالم. ومن الجدير بالذكر أن وجود عنصر الاستدامة في كل المساقات التعليمية بات مطلباً وشرطاً أساسياً لاعتماد البرامج الأكاديمية لا غنى عنه بالنسبة لمؤسسات الاعتماد العالمية.
كما لا بد أن تعمل جامعاتنا على جعل الحرم الجامعي «أخضر» ما أمكن، أي صديقاً للبيئة، وذلك بتحسين العزل في الأبنية الجامعية، ورفع كفاءة استخدام الطاقة فيها، واستخدام الطاقات المتجددة ما أمكن في تدفئة وتكييف المباني، وإعادة تدوير المياه واستخدامها في ري الحدائق، وغيرها من الإجراءات. وهذا بالتأكيد ليس بالأمر اليسير، وقد يتطلب استثمارات كبيرة، ولكنه حتماً ليس بالأمر المستحيل، وله انعكاسات إيجابية على الحياة الطلابية وعلى البيئة الجامعية عموماً. كذلك لا يعقل أن تقوم الجامعات بتدريس مفاهيم التنمية المستدامة وتكون ممارساتها على صعيد الحرم الجامعي بعيدة كل البعد عنها. ومن الضرورة بمكان أن تتصف الأبنية الدائمة الحديثة للجامعات التي أحدثت مؤخراً كجامعة طرطوس، وكذلك لفروع الجامعات في المحافظات كفروع جامعة دمشق في محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، بالأبنية الصديقة للبيئة من حيث تصميمها ومواد إنشائها وعزلها واستهلاكها للطاقة وغيرها من الصفات. وكانت جامعة دمشق قد وجّهت القائمين على دراسة هذه الأبنية بمراعاة ذلك.
وأخيراً لا بدّ من الإشارة إلى أن تصنيفاً جديداً لجامعات العالم صدر في مطلع العام الحالي عن جريدة التايمز الإنكليزية، وأطلق عليه «تصنيف الجامعات وفق تأثيرها العالمي» Global Impact Ranking. وهو تصنيف يستند بشكل أساسي إلى كيفية عمل الجامعات من أجل تحقيق 11 هدفاً من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، تشمل الصحة الجيدة والرفاهية، وجودة التعليم، والجهود المبذولة لتحقيق المساواة بين الجنسين، والاستهلاك والإنتاج المسؤولين، واتخاذ إجراءات ضد تغير المناخ، والحد من أوجه عدم المساواة، وغيرها. وقد تضمن هذا التصنيف العديد من الجامعات العربية (منها 16 جامعة مصريةـ وثلاث جامعات جزائرية، وجامعتان من لبنان) على حين غاب عنه جميع الجامعات السورية. لذا أصبح لزاماً على جامعاتنا أن تبذل جهداً أكبر في هذا الإطار، خدمة لهدف التنمية المستدامة وتحسيناً لمنزلتها العالمية.