يصعب على المرء أن يجيب عن سؤال كهذا بسهولة ومن دون العودة إلى الماضي تحديداً فضلاً عن إيجاد الوقت الكافي للإجابة عن السؤال بما يرضي السائل. ومن البديهي أنه بقدر ما يكون هذا الماضي غنياً بالذكريات يكون الحديث عنه مملوءاً بأنواع عدة من الخبرات وذلك في سياق التجارب التي خاضها الإنسان في سنوات حياته وصولاً إلى لحظة الحديث عنها.
في هذا الصدد، لا أملك حرية عدم الإجابة عن السؤال الذي طرحه عليّ أحد أحفادي مؤخراً وهو يمرر أصابعه الدافئة بين تجاعيد خدي سائلاً: جدو ماذا علمتك الحياة في سنوات طفولتك منذ أن هجرت مسقط رأسك مدينة الإسكندرونة حتى بلغت سن الرشد مثلي؟
أذهلني هذا الحفيد بطلبه. وسألت نفسي ترى كم من الأولاد لا الأحفاد فقط يريدون الاستفادة من خبرات آبائهم وأجدادهم في الحياة وفيها غالباً ما لا توفره لهم الكتب المدرسية على سبيل المثال؟
لم أحاول التهرب من طلب الحفيد فبدأت من نقطة البداية، من اللحظة التي وصلت فيها إلى دمشق مع أفراد أسرتي هرباً من نيران الجند العثمانيين ذات صباح من عام 1939 يوم أطلقوا النار على منزلنا في المدينة. كانت نقطة البداية هذه فاتحة الصراع المرير مع الظروف التي قادتني إلى دكان صانع الأحذية وبعده إلى دكان الخياط وبعده إلى دكان الدهان فالخطاط فالمطبعة، حيث تطبع الصحف وهكذا. وبعد جولة سنوات مضنية في هذه المقار، استقبلتني الحياة بأوسع أبوابها بدءاً من المدرسة إلى الجامعة إلى الوظيفة في رئاسة الجمهورية مروراً بوزارة الإعلام مستشاراً إعلامياً ورئاسة مجلس الوزراء مديراً لدائرة التدريب على طرق حفظ الوثائق وهكذا. وفي هذا السياق علمني كل من عاشرته هنا وهناك أن الحياة لا ما تجده في الكتب المدرسية على اختلاف مستوياتها، بل هي ما تختبره وتجربه بنفسك.
من صانع الأحذية في حي الأرمن في الزبلطاني تعلمت أن ما يناسب مقاس قدم الشخص لا علاقة له بمكانته غنياً كان أم فقيراً لأن لكل قدم مقاسها ولا يمكن لصاحبها أن يتخطاه بحسب رغبته. ومن الخياط تعلمت أن جوهر الإنسان لا علاقة له مع ما يرتدي من ثياب مهما ارتفع ثمنها ومن أي نوع كان قماشها. ومن الدهان تعلمت أن لكل إنسان لونه المفضّل الذي يرتاح إليه في منزله أو في مكان عمله. ومن الخطاط تعلمت قيمة الأبعاد بين حروف الكلمة حتى تكتسب رونقها وجمالها في سياق الكتابة. وفي المطبعة تعلمت أن ما نعلمه في دقائق معدودات ونحن في ساعة راحة هو نتاج عمل ليلة حتى ساعات طلوع الضوء لا يعرف فيها عامل التنضيد التعب.
وبعد سن الشباب علمتني الحياة ألا أكون مجرد كائن بشري يعنيه من الحياة فقط حالة حضور ولهذا الاعتبار سعيت في الليل والنهار كي يكون لي حضور فاعل في وطني الذي ينقلني من حالة لا معنى لها إلى حالة لها معانيها العميقة بكل ما تعنيه الكلمة.
أحياناً يحاول الإنسان أن يتخطى ذاته، بعيداً عن ذكرياته، بيد أنه لا يفلح في ذلك، لأن الماضي يبقى حياً في الذاكرة مهما طال زمن البعد عنه، ولأن الماضي يصعب تخطي تبعاته التي كثيراً ما تكون مرهقة ويبقى جزءاً من مسار له دوره المهم في رسم صورة اليوم، ومن هنا فائدة عودتنا إليه، سواء استجابة لدعوة أم لمجرد استعادة بعض من الأحداث التي عشناها ونحرص على إبقائها حيّة في الذاكرة بسبب نفعها للذات وللآخر.