نشرت أمس مقالاً موسعاً في كتاب د. سامي مبيض «عبد الناصر والتأميم» وفي الدراسة أشرت إلى أن مبيض يبدأ واضحاً ابناً للبورجوازية الدمشقية، وفي تقديمه يبرز ذلك، لأنه متضرر بالأسرة والسلالة من التأميم وتبعاته، ومجريات الأحداث والتاريخ أثبتت أن قرارات التأميم لم تسر بسورية بالاتجاه الصحيح، وما وصلنا إليه كان نتيجة طبيعية لسلبية الإجراءات، وارتجالية قرارات التأميم، ولو أن التأميم عاد على الوطن بمصالح عليا حقيقية، ورفع من مستوى ازدهار الاقتصاد، لكان بإمكاننا أن نقول كلاماً آخر للدكتور مبيض، بل كنا سنجد سامي مبيض يقول كلاماً آخر، أو يتردد في نشر رأيه إن كان شخصياً ومعارضاً لما حقق التأميم من مصالح السوريين والمصريين على السواء، أما التأميم فلم يكن كذلك، وأنا ابن بيئة فقيرة، لم يعد التأميم عليها بشيء، وإنما كان له نتيجتان: الأولى قتل الوحدة التي تربص بها أعداؤها في الداخل والخارج، وخاصة في الدول التي تدور في المحور الغربي آنذاك، والثاني محاولة الإساءة لرمز قومي وحدوي هو أول رئيس عربي لجمهورية مصر، وختمت الدراسة بأن عبد الناصر كان مسؤولاً عن أخطاء التأميم وانتهاء الوحدة، وهذا ليس ابتداعاً، فهو الزعيم الذي لا يعارض قراره أحد، حتى على المستويات الشعبية والدولية، وهو القائد الذي يعلم ما يقوم به الغرب ضده في اليمن وسواها، لذلك عمد إلى الإسهام في تأسيس منظمة دول عدم الانحياز في باندونغ، وقبل كل ذلك هو الشخص الذي اعترف بأخطائه، وكلنا يذكر خطابه في النكسة عندما تحمّل المسؤولية عن الهزيمة، وهو حقاً يحملها ويعرف بأنه باختياراته ورجالاته وصل إلى هذه النتيجة، ونعلم جميعاً أن عبد الناصر بدأ بإعداد الجيش إعداداً لائقاً، وخاض حرب الاستنزاف، وكان مستعداً لخوض حرب قادمة، والجيش المصري الذي خاض حرب 1973 أعده عبد الناصر، لكن الظروف تغيرت، وعلى الرغم من التآمر خرج من اليمن، فهل كان الخروج مظفراً؟ أما بين الناصريين من ينتقد تجربة اليمن ليس في مراميها، بل في طريقة دخولها وخوضها؟
جاءتني ردود فعل من أساتذة ومفكرين أجلهم وأحترمهم، وأشاركهم الميول والهوى، ومن ذلك ما أرسله الأستاذ صفوان قدسي الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي في رسالة تظهر اهتمامه وعمقه وفيها اعتراض وعتب على تحميل عبد الناصر الرمز مسؤولية ما جرى، وأنا أقدر ذلك، وأتمنى لو كنت أتمكن من عدم قولها.. المهم بالنتائج، التأميم عظيم عندما يعود على الشعب كله وعلى الوطن بالبحبوحة والتقدم، فهو نبيل، ومن أقدم عليه فإنما أقدم بحب ونبل مقصد، لكن ماذا عن النتائج؟ ألم تكن بتحطيم حلم لعبد الناصر والعرب؟ ونشر الفكر القومي، والانتصار له مهم، فهل تحققت الغاية في اليمن آنذاك؟
لاشك في أن الزعماء في المفاصل التاريخية نحمل لهم التوقير والحب، لكننا بحاجة إلى تقويم المراحل لننهض من كبوتنا، وألا نسمح لأحدهم أن يثري على حساب زعامة الزعماء المخلصين، وكان بودي أن أذكر الآراء التي أحترمها، ولكن المهنية تمنع من ذلك، وخاصة أن الآراء جاءت على الخاص، وليس من حقي أن أنشرها إلا بعد سماح صاحبها.
عبد الناصر كان نقياً وصاحب غايات نبيلة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، لكن خياراته كانت غير صائبة في رجالاته فقتل مشروعه!
عبد الناصر كان نظيفاً، ولو لم يكن كذلك لشهّروا به، وكلنا يعلم المحاولات للنيل منه، لكنها أخفقت لأن عبد الناصر كان نزيهاً وشريفاً.
لكن عبد الناصر كان إنساناً، وهو مسؤول بلسانه قبل غيره عن قراراته ومشوراته، فكما تحمل بنفسه مسؤولية الهزيمة، وعمل على تجاوزها، فلنعمل على تقويم التجارب وانتقادها، وخاصة أن الذين عاصروا الوحدة، والتقوا عبد الناصر مثل الأستاذ عبد الله الخاني الذي تحدث لـ«الوطن» سابقاً عن أخطاء تطبيق الوحدة كما سمع من الرئيس شكري القوتلي، وكما شاهد بنفسه، فالوحدة كان يجب أن تتم، ولكن ليس بالطريقة التي تمت، وعلى الرغم من الملاحظات وقّع القوتلي وبارك وانسحب بسلام.. الوحدة كانت كائناً عظيماً بين يدي رجالات السياسة، فهل يعفي أحدهم نفسه من مسؤولية انهيارها؟
أعود لأقول لأستاذي الجليل الذي أفخر برأيه: لست من البورجوازية، بل في الطبقة الفقيرة الفلاحية، وأنا قومي ووطني حتى النخاع ولست ممن ينتظرون الخطأ من الآخر، ولا أنتمي إلى السلالات التي تضررت بالتأميم، لكن معمل الدبس والخماسية وغيرها كان من المفترض أن تتوالد لتصبح على مساحة الوطن، لا أن تصبح مؤسسة تعج بالموظفين أصحاب البطالة المقنعة، لتتحول هذه البطالة إلى منهج في العمل المؤسسي والحكومي.. المؤلف قدم وجهة نظر أخرى مغايرة للسائد والمألوف وقالها بوضوح بأنها للدفاع عن البورجوازية الوطنية السورية، ولم يخف ذلك ليضع السم في الدسم، وكانت المقدمة لرجل من رجالات سورية والوحدة، فمن حقه أن يقول: ومن حقنا أن نقرأ.. ومن حق عبد الناصر علينا أن نعاتبه بحب لأنه اختار من الرجال من لا يستحق أن يكون أميناً على الوحدة.. منهجية أعتقدها بحب، وأنا عاصرت صورة شخصية من عبد الناصر أرسلها بتوقيعه لمواطن بسيط طلبها بالبريد هو أبي.. لكن ثمة فرق بين الشخص ونقائه وبناء الدول والقرارات المصيرية التي يشترك فيها الكثيرون من المستشارين، لكنهم يرحلون وينسون، ويبقى الرمز يتحمل المسؤولية، وهذا لا يعني أنه لم يكن عظيماً.
تآمر الكون على عبد الناصر كما يتآمر اليوم على العرب وسورية خاصة، ولكن تآمر العالم كله يتحطم أمام العزيمة، ولا يمكن أن يمر تآمر إن لم يشارك به أبناء الجلدة نفسها، وهذا فقط ما آخذه من باب الإدارة بالنتائج على أمل البسطاء والقوميين جمال عبد الناصر، وأردد مع الخال عبد الرحمن الأبنودي: يعيش جمال عبد الناصر بصوته وأحلامه.. مش ناصري ولا كنت في يوم.. إزاي ينسينا الحاضر طعم الأصالة اللي في صوته يعيش حتى في موته، ما هو مات فعاش عبد الناصر.. أحب الشخص فأحبه أكثر جمالاً ومبرأ من الأخطاء الجسيمة، وأختلف مع الآخر لكنني أسمعه لأكون ابناً للمنطق لا للعاطفة.. شكري لكل من قرأ وأعطاني من وقته الثمين.