من النِعم أن يوهب المرء روح الإقناع، ومن الحذاقة أن يمتلك قدرة اكتناز لأجوبة مُسكتة ترتبط في بديع القول وحُسن البيان، ومن هنا يكمن الإبداع في الإمتاع، وهذا الأمر تُكسبه إياه الثقافة العامة بما تتضمنه من تنوع للقيم الثابتة والمعبّرة عن وجدان الناس ومشاعرهم ومعتقداتهم وممارساتهم السلوكية في شتى صنوف الحياة. بالإضافة لما سلف هناك المزيد مما قدمته لنا د. منيرة محمد فاعور في دراستها (الأجوبة المُسكتة فن الإقناع والإمتاع) الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب.
أسباب الدراسة
(الأجوبة المُسكتة) يقال إنها: «مجموعة من الأجوبة الحاذقة الذكية، يردّ بها المسؤول على من سأله ليفحمه بالجواب المسكت». يفهم من هذا، الجواب المُسكت قول بليغ مرتجل خلقته المناسبات الطارئة الخاصة، ويعتمد فيه على المشافهة، يقصد به تصحيح الكلام أو إثبات حق أو دفع شبهة.
وبينت المؤلفة أن (الأجوبة المُسكتة) من المعطيات الشفهية التي أنتجتها الثقافة العامة، ولقد عُدت ضربا من ضروب الأدب ولونا من ألوان المعرفة التي لا يعتريها أي لبس ولا ترقى إلى شك، لما تتضمنه إضافة لوجدان الناس ومعتقداتهم، من عظات وعبر وطرائف تدهش القارئ وتمتعه وتستميله. وتضيف د. فاعور إن هذه الأجوبة تستحق الإفراد بكتاب لأسباب كثيرة، نذكر منها:
تمثل الأجوبة المُسكتة لغة الشعب كلّه، بجميع طبقاته وفئاته ومستوياته الفكرية والثقافية، وعليه فهي دعامة مهمة من دعامات الموروثين الأدبي والتاريخي، ووثيقة مهمة في بناء التاريخ اللغوي والأدبي والاجتماعي والسياسي. كما من الأسباب أننا يمكن أن نستشف من هذه الأجوبة إشارات مضيئة لضروب التفكير والتعبير لدى أجدادنا، ولعلنا نرى فيها صور حياتهم المعيشية اليومية، ومظاهر سلوكهم وإبداعهم نطقا ووعيا وتلقيا وحفظا. ومن الأسباب تضيف الباحثة إن مادة (الأجوبة المُسكتة) كانت وسيلة في العملية التدريسية لطلاب المرحلة الجامعية الأولى وطلاب الدراسات العليا، ويُتكأ على هذه العملية في تعزيز الدرس البلاغي، محققة بذلك فائدتين؛ الأولى الاستئناس بمثل هذه الأمثلة على أنها جزء من الشواهد البلاغية، والأخرى: الترويح عن الطلاب بلفت نظرهم إلى ما فيها من طرافة ودعابة تمتع الطالب والمتلقي على حد سواء، فيحفظها ويردّدها ثم يحاول تمثّلها ومحاكاتها، وبذلك تتعزّز لديه المادة البلاغية وتتمكّن في نفسه خير تمكّن. ومن الأمثلة التي احتواها الكتاب نذكر لكم:
(قال الجاحظ: قال شداد الحارثي: قلت لأَمَة سوداء بالبادية لمن أنت يا سوداء؟ قالت: لسيد الحَضَر يا أصلع. قلت: أو لستِ سوداء؟ قالت: أو لستَ أصلع؟ قلت لها: فما أغضبَكِ من الحق؟ قالت: الذي أغضَبَك منه، لا تسبُب حتى ترهب، ولأن تتركه أصوب).
ومثله (خطب أعرابي إلى قوم، فقال له أهلها: إن لها من المال كذا، وكذا من الأثاث، والماشية كذا، فما مالك؟ قال: إن كان ما ذكرتم لها، فهو يكفيني وإياها ما بقينا، فما حاجتكم إلى مالي؟).
وأيضاً (قال بعض البخلاء لغلامه: هاتِ الطعام وأغلق الباب. فقال: يا مولاي، هذا خطأ، إنما يقال: أغلق الباب وهات الطعام. فقال له: أنت حرٌ لوجه اللـه لمعرفتك بالحزم).
في المواضيع والمحتوى
أصل الكتاب مبحثان محكمان، قُدّم الأول منهما إلى مجلة التراث العربي بدمشق في شهر حزيران عام2011، وكان عنوانه: (الحضور البلاغي في الأجوبة المُسكتة)، وقُدم الآخر إلى مجلة جامعة دمشق في شهر أيلول من عام2011 تحت عنوان: (بلاغة الأجوبة المُسكتة- الأسلوب الحكيم نموذجاً).
لقد صنفت الدكتورة فاعور الفنون البلاغية في الكتاب تبعا لحضورها في أماكنها البلاغية، بادئة بمباحث علم المعاني، فعلم البيان، ثم علم البديع، وآثرت أن يكون العمدة في اختيار هذه الأجوبة هو كتاب (الأجوبة المُسكتة) الذي اهتم بجمع أجوبته وترتيبها ابن أبي عون، بتحقيق الدكتور مَي أحمد يوسف؛ لأنه -كما ظهر لها- أكثر استقصاء وجمعا لهذه الأجوبة، من غير أن تتناسى الاستعانة ببعض الأمثلة الواردة في مصنفات أخرى، لطرافتها وانطوائها تحت مظلة البحث.
كما يتناول الكتاب الفنون البلاغية التي كان لها حضور بلاغي كثيف، وعليه فقد أُهملت الفنون التي جاء حضورها عارضا أو قليلا، كما أنه لم يُؤتَ على كل الشواهد التي تندرج تحت الفن البلاغي الواحد، إذ إن معظم هذه الفنون قد وردت على نطاق واسع أحياناً ومن الصعوبة الحصر في هذا المجال، ولو فعلت ذلك لبلغ الكتاب أضعاف ما هو عليه عدداً وحجما. وعليه قدم لنا خلال هذه الدراسة أمثلة من الظواهر البلاغية الانتقائية وسُعي بها إلى تتبع حضور الفن البلاغي عبر الأجوبة من خلال تتبع الشذرات اللطيفة، وتحليل أثرها الفني وفقا للمعايير البلاغية مع الإفادة من الدراسات المتخصصة في هذا المجال.
أما في المنهج الذي اتبع في هذا الكتاب فهو المنهج الوصفي التحليلي، حيث قامت المؤلفة بالتعريف بكل فن على حدة ونبهت على أقسامه وتفريعاته ثم عمدت إلى تقسيم الأجوبة أنواعا، فأدرجت تحت النوع البلاغي مجموعة من الأمثلة حتى يتبين أثرها في الكلام وقدرتها على إحداث الاستجابة المطلوبة في إفحام المتلقي وإمتاعه.
فصول الكتاب
احتوت الدراسة كما ذكرنا أعلاه على فصلين، الأول عنوانه: (الأجوبة المُسكتة) آفاقها النظرية، عُرض فيه الجانب النظري لهذه الأجوبة من حيث: تعريفها وموضوعاتها وغاياتها ومصنفاتها وخصائصها وقيمها: السياسية والتاريخية والاجتماعية والتربوية واللغوية والتعليمية والترويحية.
وأخيراً جاء الفصل الثاني تحت عنوان: (الحضور البلاغي في الأجوبة المُسكتة) دُرس فيه الجانب التطبيقي فيها، فكان: من فنون علم المعاني: الإيجاز والاستفهام. ومن فنون علم البيان: الكناية. ومن فنون علم البديع: الطباق والمقابلة وحسن التعليل والأسلوب الحكيم والمذهب الكلامي، وإرسال المثل من البديع المعنوي والسجع والاقتباس من البديع اللفظي.