خلافاً لما كنا نعتقد، فإن تركيا الحالية ليست في الواقع مع الغرب ولا مع الشرق، ويحلو لها أن تقدم نفسها للعالم على أنها بلد يمتد بين عالمين، نصفها آسيوي والنصف الآخر أوروبي، ولايمكن لعضويتها في حلف شمال الأطلسي ولا لمشاركتها في حروب «الربيع العربي» الغربية أن تغير من هذه الحقائق شيئاً.
وقد اتضح لنا هذا الأمر حين أقدمت على شراء النظام الروسي المضاد للطائرات، S-400، وأكدت في الوقت نفسه عضويتها في حلف الناتو وقدرتها على شراء الأسلحة من خصم الحلف الذي تنتمي إليه، إذ ليس هناك نص صريح في ميثاق الحلف يمنعها من اتخاذ مثل هذا الخيار، كما لا يوجد أي نص يخول كائناً من كان بمعاقبتها.
بهذا المعنى يجب أن نفهم مفاوضات أستانا.
ترسي تركيا استقلالها الاقتصادي على مشروعها للطاقة عبر شركة «توركيش ستريم» واستكشاف المنطقة البحرية القبرصية الخالصة. ومن الواضح أن هذه هي نقطة ضعفها.
صحيح أن بعض أقسام خط أنابيب الغاز الروسي- الأوروبي الذي يمر عبر تركيا أصبحت تعمل، لكن لا يزال أمام المفوضية الأوروبية إمكانية معارضته تلبية للضغوط الأميركية. وبالتالي ليس لتركيا وفقاً للقانون الدولي أي حقوق في المنطقة البحرية القبرصية الخالصة، ولن يفيدها بشيء وقوف الجمهورية التركية (الخلبية) لشمال قبرص إلى جانبها.
من هذه الزاوية بالذات أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن تعليق بلاده لاتفاقية الهجرة مع الاتحاد الأوروبي فور تسلمهم حصتهم السنوية ملياري يورو، من الاتحاد الأوروبي.
تحاول تركيا الآن الانفصال عن النموذج المالي الأنغلوسكسوني إثر تعرض مستوى المعيشة لديها لانهيارات متصاعدة منذ الحرب الغربية على ليبيا، وازدادت حدة تلك الانهيارات مع سني الحرب ضد سورية. ما دفع أنقرة لاستعادة السيطرة على مصرفها المركزي واتخاذ قرار مفاجئ بخفض نسبة الفائدة من 24 بالمئة إلى 19.75بالمئة. لكن من المؤكد أن أحداً لا يعرف حتى الآن النتائج الاقتصادية التي سوف تترتب عن هذا القرار لاحقاً.
على عكس المرحلة الجامعة بين الأعوام 2002 إلى 2016، أن تكون تركياً، فذلك أمر ممكن بالنسبة للأقليات، لكنه غير ممكن للأفراد الذين شكلوا تحالفات مع الخارج.
شهدت تركيا منذ الانقلاب الفاشل أضخم عملية تطهير في إداراتها، شملت مؤسسة الجيش وجميع أولئك الذين يشتبه في أن لهم علاقات تبعية مع الولايات المتحدة، وخاصة أتباع الداعية الإسلامي التركي فتح اللـه غولن، نتج عنها حتى الآن سجن مئات الآلاف من المواطنين. لم تكن حرب الرئيس التركي رجب أردوغان ضد الأقلية الكردية بحد ذاتها، بل ضد الأكراد المتحالفين مع واشنطن.
يروق لتركيا أن تقدم نفسها للعالم أيضاً على أنها دولة إسلامية تحترم الأقليات. لهذا قام الرئيس التركي مؤخراً بوضع حجر الأساس لكنيسة سريانية في اسطنبول، وهذا خيار لا يتوافق مع دعمه الأعمى لجماعة الإخوان المسلمين ومشروعهم في إقامة دولة الخلافة.
أما «التضامن الإسلامي» فهو بطبيعة الحال وهم أجوف لا معنى له، وعلى تركيا أن تقرر عن أي «إسلام» تتحدث، ولاسيما بعد تخليها عن موقفها السابق بتقديم الدعم القوي لمسلمي اليوغور في شينجيانغ الصينية.
لا يزال الجيش التركي يحتل شمال جزيرة قبرص حتى الآن، ويخوض حروباً في كل من العراق وسورية وليبيا، وينتشر على أطراف المملكة العربية السعودية في قطر، والكويت، والسودان، والبحر الأحمر.
بيد أنه لا يمكن لهذا النشاط المحموم أن يستمر طويلاً، حاملاً السلم بالعرض في وجه كل من إسرائيل وحلف الناتو في آن واحد.