بمقياس النتائج المستحصلة فإن من الممكن عنونة الجولة الثالثة عشرة من أستانا، أو نور سلطان التي لم تعتد الذاكرة عليها بعد، بعنوان عريض هو توافقات على ترحيل كبرى الملفات، ففي السياسة، كما في الاقتصاد، يمكن النظر إلى جولاتها ومطارحاتها بمقياس المكاييل عينها التي يستخدمها هذا الأخير للحكم على ما حققته وإن كان من المؤكد أن ذلك وحده لا يكفي تماماً لكنه يعطي صورة مكثفة ومؤشراً عن الصورة الجديدة المرتسمة ومدى اختلافها عن نظيراتها السابقة، ثم هل هي تشكل تقدماً أو تراجعاً أو مراوحة.
برزت في الجولة الأخيرة من أستانا يومي 1 و2 من آب الجاري ثلاثة خلافات مهمة وتوافقان لا يقلان أهمية، وفي الأولى سجل ملف تطبيق اتفاق سوتشي المبرم ما بين موسكو وأنقرة في أيلول الماضي خلافاً جذرياً لم تستطع موسكو فيه إلزام الأخيرة، عبر رجع صدى «12 تموز» والآمال المعلقة عليه، من الضغط على أنقرة لتنفيذ بنود الاتفاق وهو ما عكسه البيان الختامي على الرغم من الإعلان عن التوصل إلى اتفاق هدنة سرى تفعيله في إدلب ومحيطها منذ منتصف ليلة الأول من آب أي بعد ساعات على انعقاد الجولة الأولى من المفاوضات، والجدير ذكره أن هذا الاتفاق المذكور والذي كان مشروطاً بانسحاب المسلحين إلى مسافة 20 كم عن خطوط منطقة خفض التصعيد في إدلب كان قد جرى التوصل إليه ما بين الجيش السوري وبين فصائل المعارضة المسلحة دون تدخل مباشر من الروس وإن كانت موسكو قد سارعت إلى مباركته، غياب التدخل المباشر والإسراع في المباركة تهدف موسكو من خلالهما إلى التفلت من لعب دور الضامن في تنفيذ الاتفاق الذي يبدو هشا ومن الصعب القول إنه يملك مقومات الاستمرار طويلاً، وهذي الوضعية مانحة تلقائياً لمرونة في الموقف الروسي تسهل إمكان المضي قدماً في عملية الجيش التي بدأها في أواخر نيسان الماضي تبعاً لاحتياجات المرحلة المقبلة وتطوراتها.
خلاف آخر تمظهر حول تشكيل اللجنة الدستورية وقواعد العمل بها، ولربما كان من المؤكد أن غياب المبعوث الأممي غير بيدرسون عن الحضور لأسباب صحية كما قيل وقد مثلته فيه نائبته خولة مطر، كان سبباً إضافياً في تعثر هذا الملف بعد أن نقلت تقارير مؤخراً توافقاً جرى التوصل إليه حول الأسماء الستة في الثلث الثالث من اللجنة الدستورية، إذ لطالما كانت التوافقات التي أعلن عنها في أعقاب لقاء وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم مع بيدرسون بدمشق في 10 تموز الماضي كانت قد أوحت بأنها الأولى من نوعها في هذا السياق بعد أن كانت الإيماءات قد أوحت بقبول الطرفين للمقترح الذي تقدم به المبعوث الروسي الكسندر لافرنتييف في وقت سابق وهو يقضي بتقاسم تلك السداسية بأربع حصص منها لدمشق والباقي للأمم المتحدة، على حين أن الراجح هو أن ضغط الملفات الخلافية الأخرى قد أرخى بثقله على هذا الملف الذي رحل، كما باقي شريكيه الباقيين، إلى جولة أستانا المقبلة والتي ستحمل الرقم 14 والمقرر عقدها في شهر تشرين أول المقبل.
خلاف ثالث كان طرفاه هذه المرة هما الروسي والإيراني حول ملف الجولان وإذا ما كانت الرؤى قد تباينت حول طريقة التعاطي مع التطورات الأخيرة في هذا الملف فإن الطرفين خلصا إلى نتيجة مختصرة، وإن كانت لا تفي بالغرض، عكسها البيان الختامي الذي أشار إلى التأكيد على القرارات الدولية ذات الاختصاص بهذا الشأن، وهذا الخلاف الأخير يرصد موقفاً إيرانياً صلباً في وجوب إيجاد آليات فاعلة في مواجهة قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخير الذي اعترف به بسيادة إسرائيل على الجولان أواخر آذار الماضي، وهو يلحظ أن القرارات الدولية كانت تجد طرقاتها سريعاً إلى الأرشيف والحفظ إذا غابت التوازنات القادرة على فرضها أمراً واقعاً فالحقوق المغتصبة لا تستردها الشرعية، ولم يحدث أن حصل ذلك من قبل، بغياب القوة القادرة على استعادتها.
في سياق التوافقات سجلت الجولة الأخيرة توافقاً مهماً حول ملف شرق الفرات وقد عكس البيان رفضاً للوقائع التي يشهدها هذا الأخير من نوع «مبادرات الحكم الذاتي» و«تهديد الأمن القومي للدول المجاورة» وهاتان الإشارتان شديدتا الأهمية في ظل المحادثات الجارية بين واشنطن وأنقرة للتوصل إلى اتفاق ما بشأن «المنطقة الآمنة» المزمع إنشاؤها في الشمال والشرق السوريين، وهو المسعى الذي سجل فشلاً كبيراً إبان زيارة المبعوث الأميركي جيمس جيفرسون الأخيرة إلى أنقرة أواخر تموز الماضي، وإذا ما قرن هذا الأمر الأخير بما جرى الإعلان عنه بعد اتصال وزير الدفاع التركي خلوصي آكار مع نظيره الأميركي مارك اسبر في 29 تموز الماضي وفيه أكد الأول للأخير بأن أنقرة ستضطر إلى إقامة المنطقة الآمنة في سورية بمفردها حال عدم التوصل إلى تفاهم مشترك مع الولايات المتحدة، فإن من الراجح أن يشهد شرق الفرات قريباً تطورات مهمة قياساً إلى مسعى تركي يبدو ماضياً نحو توسعة أعماله في «وأد الخطر الكردي» الذي سجل في سجلاته مؤخراً إطلاق عملية «المخلب» في الشمال العراقي في المنطقة الممتدة ما بين جبال قنديل، حيث معقل قيادات حزب العمال الكردستاني الأكبر، وبين مناطق جبل سنجار والتي قال الرئيس التركي بعد ساعات على انطلاقتها بأنها لن تتوقف قبل أن تمسح شيئاً اسمه «جبال قنديل» عن الخريطة.
توافق آخر من النوع التقليدي الذي لا يغيب عن كل البيانات والقرارات الصادرة بشأن الأزمة السورية على اختلاف مشاربها وهو يتمثل بالتأكيد على وحدة وسيادة الدولة السورية على أراضيها، وعلى الرغم من أهمية هذا التأكيد إلا أن الفعل يجب أن يرتبط بالممارسة وإلا فإنه يصبح فارغاً بلا معنى فما جدوى التأكيد على وجوب الوصول إلى «النبع» إذا ما كانت الطرقات المسلوكة إليه تودي إلى اتجاهات أخرى.
في ميزان التلاقيات والافتراقات الدولية والإقليمية فإن من الواضح أن مشروع الانفصالية الكردية البادئ في الشمال العراقي والمتمترس في الشمال والشرق السوريين مؤخراً، ماض نحو الانهيار، وعلى الكرد السوريين أن يضعوا في حساباتهم أن انهيار المشروع التركي في مصر2013 وفي تونس العامين 2014 و2015 والمتداعي في ليبيا والسودان ربيع هذا العام سوف يجعل منه أشد شراسة في الموضوع الكردي بشقيه في الشمالين السوري والعراقي اللذين باتا خط دفاع أخيراً عن وحدة الأراضي التركية تحت طائلة التهديد بوحدة هذه الأخيرة وهذا الأمر يشكل دافعاً هو الأكبر من بين كل الحسابات والتوازنات الأخرى التي يمكن لها أن تكون فاعله في صناعة القرار السياسي التركي.
يمكن في هذا السياق لحظ أمر قد يكون أكثر أهمية بالنسبة لأنقرة في مسعاها نحو إزالة خطر الانفصال الكردي الذي يتهددها وهو تحديد نقطة التلاقي الممكنة مع دمشق وهي بالتأكيد موجودة فإذا ما تعذر التلاقي عند الكيلومتر 10 أو 20 فمن الممكن التلاقي عند الكيلومتر 100 أو 200 بما يضمن حماية وحدة أراضي البلدين وعدم قيام فاصل جغرافي ديموغرافي فيما بينهما يمكن أن يكون معيقاً في حسابات التفاعل الحضاري والاقتصاد.
هكذا فرضيه قد لا تكون بعيدة الآن والمؤشرات عليها كانت بسيطة في السابق لكن إنضاج حلقة جديدة منها قد يكون على موعد مع أيلول المقبل تبعاً للانزياحات التي سيشهدها الداخل التركي خلال هذا الشهر والتي ستدفع بأنقرة على الأرجح نحو تأمين حالة إسناد سوري لرافعة النظام التركي الروسية.