الواقع هو طاحون الآلام والآمال، عبارةٌ قد تفهم باتجاهين، اتجاهٌ إيجابي فالمزارع مثلاً يحصد سنابل الخير ليحولها ذاك الطاحون إلى نعمةٍ تتراقص على نغمات رحاه، واتجاهٌ سلبي كذاك الذي يعتمرنا عند التفكير بالحلول لما لدينا من مشاكل وهمومٍ لنصطدم بالكثير من الخيبات فيصبح الواقع هو ذاك الطاحون الذي يطحن آمالنا، وهل من جريمةٍ أسوأ من طحن الأمل؟
في واقعنا الحالي فإن طاحون الآمال بات طواحين، فهو قد يأتيك مثلاً على هيئة مواطنٍ لم يدرك بعد أن الشوارع والشواطئ ليست لرمي القمامة، وأن الانتظام بالصف ليس انتقاصاً من رجولتهم المزيفة وأن حق الدولة ليس نوعاً من الاستيلاء على أملاكهم، لكنه بسياقٍ آخر قد يأتيك على هيئة تصريحاتٍ لوزير اعتاد أن يذكّرنا بأن زمن الحرب هو للصمود فقط، ولو أن القدر أنصف «سعادته» لنال عن تصريحاته سنوياً جائزة «الطاحون الذهبي» للتصريحات الأكثر تنظيراً وبيعاً للكلام.
قد يكون باجتماعاتٍ حكومية تنتهي بتشكيل لجانٍ يحتاج المحررون الصحفيون الذين يكتبون عنها إلى خبراء في اللغة الهيروغليفية لفك طلاسم رموزها، وقد يتجسد في وزاراتٍ كاملة لا نعلم حتى الآن حقيقةً ما الهدف الحقيقي من وجودها، هل حقاً أن الإصلاح الإداري مثلاً بحاجة إلى وزارة؟ لندخل بعدها سجل الإبداع الذي تتربع على عرشه منذ أيام أخبار إنجاز قانون «من أين لك هذا» قبل نهاية العام.
دائماً ما نكرر عبارة أن هناك من هم بارعون في تجارة المصطلحات لدرجةٍ يبدو فيها هذا المصطلح مفرّغاً من مضمونه، من مصطلح الشفافية وصولاً إلى مصطلح «الوقاية من الفساد» وليس محاربة الفساد، الذي باتوا يستخدمونه عند الحديث عن أي إنجاز تحققه هذه الوزارة أو تلك، هذا إن صحّت كلمة إنجاز وسط الفوضى الإدارية التي نعيشها ليجعلونا نتساءل:
هل حقاً من أين لك هذه الثروة عزيزي الموظف، أم من أين لك هذه الحنكة عزيزي المسؤول؟
نعرف أن فكرة مراقبة الثروات أو الإقرار بأملاك كبار المسؤولين في أجهزة الدولة مطبقة عملياً في كل دول العالم، لكننا لا نعلم حقيقةً ما الفكرة من التطبيل لقانونٍ موجود أساساً بروحيته في القوانين السورية منذ ما يقارب الخمسين عاماً، لكنه وعلى شاكلة قانون منع التدخين في الأماكن العامة لا يطبق منه شيء، ربما لأن تطبيق كلا القانونين قد يقود إلى تعكير مزاج سيادته/سيادتها في دوائر الدولة المختلفة.
ربما لو فكرنا بحسن نيةٍ لقلنا مثلاً إن سورية المتجددة بحاجة لقوانين متجددة، لكن هل علينا عندها مثلاً أن نعدل في قوانين السير ليصبح الأفضلية لليسار وليس اليمين؟ أما إن فكرنا بسوء نية «والعياذ بالله» فهل سنفترض أن إعادة إنتاج قانون كهذا بصيغةٍ جديدة يهدف للاستفادة من نظرية «رجعية القوانين» وشمولها لحالاتٍ تمت قبل صدور القانون ونشره في الجريدة الرسمية أم بعدها؟
ترى كم هو عدد المسؤولين الحاليين الذين التزموا بالتوجيهات الشفهية التي أعطيت إليهم للتصريح عن أملاكهم قبل مباشرتهم مسؤولياتهم؟ ألا يعتبر عدم التصريح تجاوزاً للقانون؟ ثم ماذا عن التجار وحيتان الأسواق من سيسأل هؤلاء عن مصدر ثروتهم؟ إذا كنتم فعلياً تحرصون على المال العام من الموظف فهل فكرتم أن تسألوا أنفسكم ماذا يكفي راتب الموظف؟ هل فكرتم بتلك الدراسة التي قالت: إن حاجة العائلة السورية تبلغ أكثر من مئتين وخمسين ألف ليرة سورية بينما راتب الموظف لا يتجاوز الأربعين ألفاً.
في الخلاصة: إن الاستمرار بعقليات كهذه في الإبداع واختراع إبر التخدير سوف لا تجعلنا نتمسك بفكرة أن الواقع طاحون الآمال فحسب، لكننا باختصارٍ سنبصم على مقولة:
لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع، هل من واقعٍ كان غيباً قبل سنواتٍ أسوأ من ذاك الذي لا نستطيع فيه أن نسأل من هم أمام ناظرينا، من أين لكم هذا؟