اقتصاد

أي مصارف؟

| علي محمود هاشم

هل ما زال اسمها مصارف حتى الآن.. أم إنها مجرد ترسبات فكرية من زمن الاقتصاد الغابر؟!
لا أدلّ على التهتك الذي يعتمل قطاعنا المصرفي، مما قاله مدير المصرف العقاري قبل أيام عبر مقال مقتضب متناولاً «تخفيض سعر الفائدة المدينة والدائنة» كمدخل -ربما- يمكنه أن يشكل رافعة حقيقية لانتعاش الاقتصاد.
مواظبة المقال على حشر الـ«ربما» بما تجسده من تقليل وتمنٍّ وتكثيرٍ، قبل أي حلول ممكنة للفكاك من القيود التي تكبّل الاقتصاد الوطني إلى قطبين متعاكسين، إنما تبرز حالة «عدم اليقين» التي توجت تلك السلسلة الطويلة من الإحجام الحكومي والتلكؤ والمحاولات البائسة لاشتقاق التعافي من الشعارات الزائفة في مواجهة الحرب الاقتصادية المستمرة، قبل تحولها دفعة واحدة إلى كوابيس.
أداء المصارف الوطنية وظيفتها التي خلقت لأجلها، «ربما» يفيد في انتشال الاقتصاد من الركود التضخمي ومنعكساته الإنتاجية الجاثمين على صدر الأسواق.. هذا الاختزال الذي قدّمه مدير العقاري، يستبطن اختزالاً آخر جرى تقديمه كأزمة عامة تخفي وراءها ما باتت تعانيه المصارف العامة بعدما استحوذت عدوى الركود التضخمي على شرايينها وهي التي «كان» ينتظر منها المساهمة في إزاحته عن كاهل الأسواق!
هكذا، ولأنه «بالكيل الذي تكيل، يكال لك»، ها هي اليوم بلا قدرة على قبول الإيداعات كضرب من ضروب الاستهلاك، ولا على الإقراض كتعبير مجازي عن الإنتاج؟!
من حيث نحن، نرزح تحت المعضلة المعنّدة، لا زال البعض يحاول تسويق الجحيم الذي تتقلب المصارف في أتونه كـ«نعيم»!، جرى الأمر خلال الاجتماع الحكومي الرفيع مع المصارف العامة الستة مطلع الشهر الجاري، حين حاول ذلك البعض إضفاء طابع وطني على «الانحراف» متناولاً كارثة تراكم الودائع كمؤشر على «الثقة الكبيرة التي وصلت إليها المصارف في كسب ثقة الجمهور من خلال المستويات غير المسبوقة التي حققتها ودائع المتعاملين رغم التحديات الكبيرة في هذا الاتجاه».
في الواقع، قد تلخص تلك «الثقة» معضلتنا العويصة اليوم، إذ إن مشكلتنا المتنكرة بـ«كسب ثقة المودعين» تقتات على ما تبقى من طاقتنا الاقتصادية والاجتماعية، فزيادة عن دورها في توزيع الفوائد الباهظة على شكل سندات سيادية لتأمين تدفقها المستمر إلى المودعين، ثمة تحصيل موازٍ لها من جيوب ذوي الدخل المحدود بعد استنفاد استلاف قدراتهم الائتمانية على المدى المنظور من خلال إغراقهم بالقروض الاستهلاكية.
لا يظن أحد بأن المسألة أخلاقية، إطلاقاً، فمع تركز فوائض الأرباح في أيدي قلة من المودعين دون قدرة على تمريرها إلى الاقتصاد الحقيقي، لا تلبث أن تتحول عبئاً زائداً على المصارف التي، وما إن يتجدد تململها من «الثقة الزائدة» عقب استنفاد قدرتها على الاستيعاب القسري للودائع، حتى تنطلق مرحلة التحول الجماعي نحو الدولار ترافقها موجة جديدة من التصدع النقدي الذي يذهب بنسبة جديدة من قيمة الودائع ويفرض جولة جديدة من تدفيع محدودي الدخل فوائدها.. وهكذا!.
أما وما زالت «الثقة المصرفية» شعاراً يقود الاقتصاد من ناصيته إلى حتفه، وأداة لقطف الثروة العامة وتسييرها نحو كبار المودعين، فهل حقاً تستحق تلك المباني الجميلة لقب «المصارف»؟!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن