ثقافة وفن

الخطاب ووسائل الوصول

| إسماعيل مروة

تدور أحاديث كثيرة حول الشرائع المتعددة، وأغلب ما يدور في عالم اليوم يجعل الإسلام هدفه، والمسلمين غايته، وهذا أمر طبيعي مع أنه مؤلم، ففي البداية وضع الإسلام والمسلمين اليوم وضع مزرٍ بأفعال خارجية، وبأفعال ذاتية داخلية، وأزعم أن المسلمين أعطوا مقاليدهم، وباعوا أنفسهم سياسياً، وارتهنوا ما يملكون من الدين والدنيا لدى الآخر، بل عملوا على إظهار الصورة الأكثر سوءاً من أنفسهم ومن تفكيرهم، إضافة إلى أن الضعف العلمي، والجهل المعرفي، والبطالة كلها اجتمعت لتحول المجتمع العربي والمسلم من مجتمع ناهض إلى مجتمع يعاني ويلات التخلف.. وليس من حق أحد أن يدّعي عداء الآخر له، وهو يرى ويسمع على الإعلام، أو في منصات التواصل علماء أجلّاء لا يزالون يتداولون في الآراء والفتاوى حول قضايا لا تحتاج رأياً! ونحن نتابع حوارات مضحكة مبكية مؤلمة حول دقائق حياة الإنسان التي لا تحتاج سؤالاً أو تدخلاً.. إن المؤسسة الدينية الإسلامية مسؤولة مسؤولية تامة عن واقع المسلمين المتردي، ولا أقول الإسلام، فالإسلام عقيدة عاشت وتعيش بذاتها وبما تحمل من سمات يعجز عنها الكون والكارهون، وشأنها شأن العقائد الأخرى، لها أتباعها وميريدوها والمؤمنون بها.. وكل ما يجري الحديث حوله اليوم هو من نافل القول، فالحكم والسيادة للقوة، وبما أن العالم العربي والإسلامي اليوم يعاني الضعف، فإنه سيكون هدفاً سياسياً، وغاية أيديولوجية، ومن البدهي أن تتم عملية الاستلاب والتشويه أو الانتصار بوساطة العقيدة، لأنها الوحيدة القادرة على التجييش والتجييش المضاد.. وبحكم علاقتي وعملي كنت أطرح السؤال نفسه على أي فئة أتحاور معها أو أشهد حوارها، مرة سألني شيخ: لماذا يكرهنا المسيحيون؟ فأجبته: لماذا يكره المشايخ بعضهم ويتعاملون بحقد؟ وتابعت عندما تحبون بعضكم ستحبون الآخر ويحبكم.. وأحد أصدقائي من رجال الدين المسيحي، سألني: لماذا يكرهنا المسلمون، فذكرته بانتقاصه للذين يتحدث عنهم من رجال الدين المسيحي، وقلت له: أعطني مثلاً عن حبك للمسلمين وإنهم سيبادلونك الحب، حتى في العقائد الوضعية والأحزاب السياسية، نسمع النغمة نفسها، ولو شئت لضربت أمثلة لا تنتهي حتى مطلع الفجر، وكلها تقول: أحب نفسك أولاً، وأحب الآخر، وستجد الحب، ولن تجد نفسك بحاجة لتغيير الآخر وقناعاته لينسجم معك.
عندما أنتقد فكرة فهذا ليس عداء، وإنما رأي، وعندما أنتقد آلية تفكير، فهذا يتعلق بالإيضاح والتفسير، وليس له علاقة بالفكر ذاته، آليات التفكير والخطاب ليست الفكر وإنما الأدوات التي أتوصل من خلالها إلى جوهر الفكر وصوابيته، وعندما أطرح ضرورة تغيير طرائق الوصول، فهذا لا يعني العداء، ولا يعني التخلي لمصلحة الآخر.
إن دعوة أحدهم، وهو من المعتقدين المسلمين الذي لا يشك بِإيمانهم، لتغيير طرائق الوصول ليست تخلياً، وليست تنازلاً لمصلحة الآخر الذي أفترض عداءه مباشرة، ورفض العنف والعدوان والتطرف لدى المسلمين اليوم، هو دعوة صادقة لتغيير المسار الذي صار معوجاً من أجل المسلمين، ولا يعني بحال قبول الاتهام، وتبرئة التطرف الصهيوني أو الحروب الصليبية، وبالمناسبة تسمية الحروب الصليبية جاءت من الغرب، ولم يدعها العرب إلا بحرب الفرنجة كما فعل أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار.
محاولة تقويم المسلمين من المسلمين اليوم هي محاولة نهضوية للعودة إلى الجوهر الإسلامي الذي اعتمد في العموم على السلام، لا تقطعوا شجرة ولا تقتلوا طفلاً..
إن كل ما فعله اليهود والمسيحيون والمسلمون وغيرهم من جرائم وعدوان تجاه البشرية كان من شخصيات موتورة، ولغايات سياسية، لم يكسب الشرع فيها شيئاً سوى الإدانة وإلصاق التهم به.
واليوم لا أحد من المسلمين ينكر الحرب المستعرة، الحرب البينية الداخلية بين المذاهب الإسلامية، التي تدور لأسباب سياسية، ووقودها يجهل كل شيء في الشريعة كلها، ناهيك عن جهله بالمذهب الذي يعتنقه ويقاتل لأجله..!
الخطاب شيء، والفكر شيء آخر، الخطاب وسيلة وطريقة قابلة للتغيير والتعديل، بل يجب أن تتطور دوماً، أما الفكر فهو الجوهر الذي يعمل الخطاب على إبرازه بالطريقة اللائقة الشرائع الثلاث والعقائد الوضعية والأحزاب، كلها يجب أن تعمل على تغيير أدوات الخطاب بما يخدم الجوهر، وبما يخدم الإنسان ويحقق له السعادة.. ما من شيء مقدس سوى الجوهر الأول، وكل الحواشي والهوامش والزوائد يمكن أن يتم الاستغناء التام عنها لتقديمها بصورة جديدة.. والعواطف لا تستطيع أن تغير من الحقائق، ومن أن التفسير اليهودي يقوم على نظرية الاختيار واستباحة المختلف، ولا تستطيع أن تلغي من الذاكرة الحروب التي خاضها المسيحيون ضد الآخرين، وفيما بينهم وكان العنف سيدها، ولا تستطيع العواطف أن تقنع المتابع أن ما جرى من أيام العباسيين، وما يجري اليوم ليس حرباً طائفية قذرة ذات غايات سياسية.
لماذا لا نجعل همنا في سعادة الإنسان، ويكون أمر العقيدة أمراً خاصاً بين الإنسان وخالقه، فهو أعلم به وبحاله، وأكثر حباً له من ذاته؟
القتل على الدين لا مسوغ له.. والرفعة على الدين لا قيمة لها..
والدين لا يحمل تبعة ما يفعل الساسة والمتعطشون للدم والقتل.. وأعيدوا طرائق الوصول إلى حياة سعيدة للإنسان والبشرية، إن كان مشابهاً لكم أو مختلفاً.
الثوابت لا تتغير عبر الزمن، فالحق والخير والجمال، قيم لا تخضع للتغيير والمساومة، ولا تكون ضمن جدول البراغماتية، ولكن طرائق الوصول إليها قد تختلف بين مكان وآخر وزمان وآخر، وتجديد الطرائق والخطاب يمثل ثورة إيجابية داخلية يتحدد من خلالها الإطار الصالح الذي يهدف إلى القيم وتعزيزها، وليس إلى مصالح طبقة فردية كهنوتية دينياً وسياسياً، لا ترى سوى نفسها، ولا تعجب إلا بحديثها معاداً مكروراً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن