عندما كنا صغاراً كان كثيراً ما يتناهى لمسمعي تعبير «مانو مسولف»، وكان شرحه المختصر، لإسكات فضولنا كي يعود الكبار لانشغالهم بالثرثرة الاعتيادية أنه «شخص غير مُوجّب، ما بيسأل ولا بيسولِف..»، ولاحقاً فهمت أن شرح الشرح مقصود به الفرد الذي لا يبذل مجهوداً في التواصل الاجتماعي، في مجتمع يقوم على هذا السلوك، وهو يعني سلماً طويلاً جداً من الواجبات، يبدأ بالسؤال عن الصحة، ولا ينتهي بالمباركات ومنح الهدايا وكثرة المديح والمجاملة.
ورغم أن المصطلح سلبي وغرضه ذم شخص، أو تحميله مسؤولية عدم وصوله غايات ومصالح محددة، إلا أنه ظل مثار جدل داخلي، فمن الطبيعي لنا نحن ككائنات اجتماعية أن نلبي جوعنا للمديح والتفاخر بغرض التعالي بنظر الآخرين، وبنظر أنفسنا، ولكن أن تصبح هذه هي القاعدة؟
كثيراً ما كان يجيبنا أحد عن سبب وجود شخص معين أقل كفاءة من غيره في منصب، بأنه «ملسن» و«حربوق»، ورغم أن هذا لا يروق بالضرورة لجميع المسؤولين (أحدهم عرفته كان يجيب حين يعلق أحد ضيوفه بأن موظفيك يمدحونك، وأن نصف هذا المديح كان تمسيحاً للجوخ فقط)، إلا أنه يبقى أمراً مرغوباً من الأغلبية، بل وحاجة أصبحت قاعدة في التعامل.
يأتي كل هذا للذاكرة، بعد قراءات لاستعراضات عديدة لكتاب الفيلسوف الكندي ألن دونو، والذي كان أول من قدمه للقارئ العربي الكاتب جان عزيز في صحيفة الأخبار، منذ ثلاثة أعوام مستعرضاً الكتاب بعنوانه المثير: «سيطرة التافهين».
ويصلح الكتاب لوصف هذا الزمان، ولكنه مقصر كثيراً في وصف واقعنا العربي، الذي ليس مادته أصلاً، فتوصيف الواقع الذي يقدمه يتقدم عنا حتى في علله عقوداً طويلة.
لكن بدورها تصلح النصيحة التي يقدمها «دونو» للنجاح في عالم يسيطر فيه التافهون وهي: «ألا تكون معتدّاً بنفسك، ولا روحانياً، فهذا يظهرك متكبراً، ولا تقدم أي فكرة جيدة»، فستكون عرضة للنقد، ولا تحمل نظرة ثاقبة، ووسع مقلتيك، وارخ شفتيك، وكن ذا مرونة وقابلية للتشكل- و«التعليب» لأن التافهين أمسكوا بالسلطة».
ويعزو «دونو» سيطرة التافهين على مجريات الأمور في العالم باختصار إلى تغير مفهوم العمل، بحيث صارت «المهنة»، «وظيفة». وصار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير.
وفي النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، لا مكان فيها لقِيم ومبادئ ومفاهيم عليا، وصارت الدولة شركة خاصة، وصارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد. و«بتنميط العمل وتسليعه، وتفريغ السياسة والشأن العام من المضامين التي ظلت قائمة عليها لقرون، تنتفي الحاجة بهذا العالم القاتم للمثقف وللحس النقدي، فهو ببساطة غير مقبول، لأنه يعاكس مجريات اللعبة، ويعرقل انسيابها».
وصار السياسي صورة سخيفة لناشط في لوبي زمرته، وتحقيقه للنجاح يتطلب أن «يلعب اللعبة»،
واللعبة هي هنا دون قواعد ولا نص لها، «لكن يعرفها الجميع: انتماء أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والغداءات والانتقامات، بعدها يصير الجسم فاسداً بشكل بنيوي قاطع».
أما مقاومته عالمياً فباستعادة «معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام…»، هذا عالمياً، أما عربياً، فيمكن البدء بالمواطنة والكفاءة وترسيخ مفهوم الشعب، وحقوق الفرد من دون مساومة، هذا طبعاً على أمل أن ثمة من يهتم.