الكنايات الشامية والكثير من التعابير والأقوال … التزام الأصول فيها للتعبير عن صدق المرء وجرأته في الحديث
| دمشق - منير كيال
تداول الناس في مدينة دمشق تعابير وأقوالاً واصطلاحات كانت تعبيراً صادقاً لما يجيش بالنفوس من الآراء والأفكار وما هم عليه من تواصل وتواد.
وهذه التعابير والأقوال والاصطلاحات تعود في أصلها إلى وجدان الشعب، وقد عملت الأجيال بها صقلاً وتهذيباً حتى وصلت إلى ما هي عليه، فكانت تعبيراً لما تواضع عليه المجتمع من آراء وأفكار في صياغة مختزلة لطيفة التعبير، تتسم بالحلاوة والرقة والعذوبة وتتعايش مع أحاسيس الناس، وما هم عليه من تواصل وصلات اجتماعية وإنسانية.
وقد سرت هذه التعابير والأقوال والمصطلحات بين الناس مسرى الأمثال، وجعلوا منها محط الشاهد في أحاديثهم أكان ذلك في الإطراء أم في حالات النقد من ذم وقدح.
فكانت هذه التعابير والأقوال وكذلك المصطلحات ترسم الواقع الاجتماعي بما هو عليه من شمول، لما كانت عليه مفردات هذه التعابير والأقوال من قوة في المعنى وخصب في الأداء وهذا جعل هذه التعابير والأقوال والمصطلحات من فنون الأدب الشعبي بكل ما في ذلك من معنى.
فضلاً عن ذلك، فإننا نجد أن من تلك التعابير والأقوال وحتى المصطلحات ما هو متداول، أكان ذلك في المناطق المجاورة لمدينة دمشق أم حتى مدن المحافظات الأخرى في الجمهورية العربية السورية وهذا بالطبع لا يخلو من إمالات في النص والتعبير.
وقد كان لنشأتي في البيئة الشعبية في حي الشاغور في مدينة دمشق، وتعايشي مع أندادي ومع أناس آخرين من الجيل الذي سبقني رجالاً ونساء، شيبة وشباناً من شرائح اجتماعية متنوعة، بالسوق والمقهى والمتجر والطريق، أن وقفت على الكثير الكثير من تلك التعابير والأقوال والمصطلحات التي جرى الناس على التعامل معها في أحاديثهم، ومن خلال تعاملهم.
فضلاً عما انطبع بذاكرتي، يوم كنت أحضر مع جدتي ووالدتي سهرات النسوان التي تميزت بها مدينة دمشق، حين كنا نتنقل بين الحارات على نور الضواية يمسك بعضنا بأيدي بعض حتى لا يتعثر الواحد منا، ونحن في طريقنا إلى مكان السهرة، كنت أصغي في ذلك كله الإصغاء الذي يجعلني أقف أسمع كل كبيرة أو صغيرة مما يدور أمام ناظري ومما يترامى إلى سمعي، حيث لا أضيع كلمة أو غمزة بل ولا لمزة يراد بها هذا الأمر أو ذلك الأمر من كنايات، وإذا تطلبت السهرة أن تفتح سيرة أو قصة بين الساهرات مما لا ينبغي لأمثالي سماعه، فقد يطلب إلينا النوم باكراً حتى نستيقظ باكراً، لما في ذلك من مغريات لكن ذلك كان مما يجعلني أكثر حرصاً في إصاخة السمع، حتى لا يفوتني شيء مما يدور، وإذا تعذر علي سماع ما يدور بين الساهرات فما كان لي إلا أن «أحكش» بين فرش اليوك الذي طلب إلي أن أنام به، فأرمي تلك الفُرش وما رافقها من لحف ومخدات على الساهرات، وليحدث ما يحدث.
وكان حصيلة ما سمعت ورأيت الكثير الكثير من تلك التعابير والأقوال والمصطلحات التي تدور على ألسنة الناس في تخاطبهم وأذكر على سبيل المثال أن كلمة حكي يراد بها الكلام، أو الحديث بما يجري بين المتحاورين من الناس: فإذا حاول أحد من غير المتحاورين الدخول في حديث جانبي ينهاه أحد المتحاورين بقوله: عم نحكي، بمعنى كف وارتدع. ويلحظ في مجال آخر أن كلمة حكي قد يراد بها إيثار الموقف الشهم إذا تحدث المرء عن شخص آخر وفي ذلك قولهم:
حكي الوجه قوة وحكي القفا مروة
كناية عن ضرورة التزام المرء الأصول التي تعبر عن صدق المرء وجرأته في الحديث عن الآخر في حضوره وغيابه لا أن يظهر طلاوة اللسان في حضوره وينال منه في غيابه ما لا يتوافق مع ما توافق عليه الوجدان الجمعي من أصول التخاطب أو التحدث بين الناس أو الحديث عنهم حال وجودهم أو غيابهم ومن ثم فإنهم يعتبرون الحكي أو الكلام عن أو على الناس على ذلك النحو:
كلام ما له طعمة
ونجد في هذا المجال الكثير من المقولات التي لا تستسيغ ذلك النحو من الكلام كقولهم: كلام وحكي نسوان وحكي جرايد، وحكيه أو كلامه بيهر اللقمة من الفم، وبمقابل ذلك نجد قولهم في الحكي أو الكلام بشكل عام «كلام أو حكي بينداس وحكي بيعبي الراس».
وحري بنا القول: إن التعابير والأقوال والمصطلحات التي تجري على ألسنة الناس في تخاطبهم، وإن كانت بالعامية أو اللهجة الدارجة، فإن لها من حسن التشبيه والجرس الموسيقي ما يجعل منها ما تدفع المرء للشعور بلذة ومتعة تتناغم بين القائل والمتلقي، وهي جديرة بالدراسة والتحليل للوقوف على ما كان عليه أسلافنا من تعامل.
وإذا كنا نجد في أيامنا هذه، وخاصة في الأعمال التلفزيونية أو المسرحية ما كان يزرع في خلد المستمع معاني غير المعاني التي قصدها الوجدان الجمعي لدى من سبقنا، فإن ذلك يستدعي القيام بعمل من شأنه تسجيل ما أمكن من هذه المقولات للتعرف إلى الحقائق الأساسية التي تربط أركان المجتمع وصولاً إلى معرفة مضامين حياة من سبقنا من الأجيال. وهذه مسؤولية على عاتق الكاتب والباحث ومن في حكمهم.