ثقافة وفن

مشروع أدونيس الثقافي الفكري لمجابهة العنف … العربي اليوم يتماهى مع الآخر الغربي في استخدام التقنية لأنها مفروضة عليه بقوة الحاجة

| إسماعيل مروة

لا أحد ينكر أدونيس وأهميته، وهو واحد من أقطاب الأدب والثقافة في العالم العربي والعالم، وإن لفتتنا كلمة هنا وأخرى هناك، فهي صادرة عن شخص ضاق جهله بأدونيس، أو فرضت عليه إيديولوجيته عدم التعاطي مع النص الأدونيسي، فمن أين تنبع أهمية أدونيس حقاً؟
هل من شعره، وهو شاعر من النسق الأعلى؟ هل من نقده وهو صاحب رأي نثره في كل ما كتب نقدياً، واجتمع في ثابته والمتحول؟ هل من آرائه الفكرية التي وصلت مدى بعيداً منطلقاً من قاعدة فكرية ودينية؟ هل من زوايا التصوف التي تشعّ من نصه حملها معه من تكوينه المذهبي والديني الأول؟ هل من ترجماته، وهو مترجم متفوق يعطي للنص روحه، ويحافظ على روح النص وتفوقه؟ هل.. وهل؟ أظن أنه منها جميعاً، وكل زاوية منها جديرة أن تخلق أكثر من أديب على مستوى العالم؟

رؤى وعرض للعالم الآخر
القارئ عامة، والمتخصص تحديداً يقف عند ظاهرة دراسة الأدب العربي ونقده في الغرب، وبالأمس كنت أجالس رجلاً جليلاً استهزأ من أن تتم دراسة الأدب العربي والحصول على شهاداته العليا في بلدان أجنبية، فأجبته بأن الأمر لا يتعلق بالمادة المدروسة بقدر ما يتعلق بالمنهجية والفكر والنظريات، وضربت لذلك أمثلة كثيرة من بديع حقي إلى عمر النص وأمجد الطرابلسي وجودة الركابي وسواهم الكثير ومن أشهرهم إبراهيم الكيلاني.
وفي ظهيرة اليوم نفسه كنت على موعد مع صديقي الشاعر سامي أحمد الذي قدّم أربعة أجزاء من ا لمشروع الثقافي الفكري النقدي النثري لأدونيس والذي تقوم على نشره دار التكوين بدمشق، وفي الكتاب الأول الذي استعرضته (الشعرية العربية) وجدت إجابات كثيرة عن هذه التساؤلات، سواء من مقدمة الشاعر الكبير إيف بوتفوا الذي قدم للكتاب أو في الدراسات الأربع في الكتاب.
في باريس وفي العالم المتحضر هناك رجال علم أخلصوا لدراسة تراثنا ونشره كما لم نتمكن نحن لأننا لا نملك الأدوات، وفي هذا السياق أسترجع كتاب (المتنبي) لبلاشير الذي ترجمه إبراهيم الكيلاني فكان من أهم الكتب منطقية ومنهجية، وكتاب (الغزل عند العرب) لفاديه الذي ترجمه الكيلاني أيضاً، فقدم ظاهرة الغزل في مجلدين وبطريقة لم يسبق للعرب أن وقفوا عندها، في صريح الغزل وفي عذريّه.

فضائل أدونيس الشعرية
الشعرية العربية دروس ألقيت في باريس، وإيف بوتفوا الكاتب والشاعر الشهير يصفها بالدروس لا المحاضرات، فهي دروس وتحليلات لأدونيس في الشعرية العربية تكتسب أهميتها من ملقيها والمكان والحضور، وفي الوقت الذي نجد من ينتقد عن جهل موروث أدونيس النقدي، نجد الكبار يجلسون لدروس أدونيس بمنطقية للفهم، إيماناً منهم بأهمية أدونيس ورؤاه ومعارفه العالمية، وليس العربية وحدها يقول بوتفوا: «إن قبول شاعر من كبار شعراء اللغة العربية المعاصرة، أن يعرض بلغتنا الملامح الأكثر أهمية في الشعرية التي يرثها، إنما هو شرف لثقافتنا وهو ما يجب أولاً أن نشير إليه، يمتلك أدونيس الفرنسية بشكل كامل، إضافة إلى أنه اليوم، مثال عن مثقفي العالم العربي والإسلامي، الذين يجدون معنى وقيمة في أن يفصحوا عن أنفسهم عند الحاجة بلغة شاطئ آخر. وهو إذ يتجه في نتاجه الخاص إلى المستقبل، يشجعنا لنفكر بأن التبادل القديم يمكن شيئاً فشيئاً أن يتجاوز التنافر والخلاف».
ومن المقدمة البعيدة عن التقريظ والذاتية نقرأ لبوتفوا قوله: «إن ما نتعلمه أيضاً بقراءة أدونيس هو أننا نحسن فهم تراثنا الشعري الخاص، من العصر الوسيط حتى السوريالية التي مهدت لها كما يبدو نصوص قديمة العهد في أرض الإسلام» أقف في هذه المقدمة العميقة التي وصفها كاتبها بالسطور عند نقاط أثارها:
1- أهمية قراءة أدونيس بما يشكله من إرث معرفي وشعري وأدبي، وما يملكه من معرفة وصفت بالكاملة بلغة الشاطئ الآخر.
2- اعتداد الثقافة الفرنسية بوجود هذا الأستاذ في أهم معاهدها.
3- نسبة أدونيس إلى الثقافة العربية والإسلامية، وهي هوية لا يمكن لأحد أن ينزعها عنه، ولا يمكن هو أن يتخلى عنها بأي شكل وطريقة.
4- كشف سبل التلاقي لا التنافر بين الثقافات العالمية.
5- بيان التأثر والتأثير بين الثقافات والآداب، وأدونيس الذي أظهر لهم الجذور المشتركة.
6- الكوليج دوفرانس له قيمة مهمة فهو الذي درس فيه مشاهير المستشرقين، وقدم دراسات وتحقيقات وتحليلات في الأدب العربي كانت محرضاً للعرب أنفسهم لدراسة ميراثهم، وعند استعراض الأسماء في المقدمة نجد أن العرب انشغلوا في النيات لهؤلاء المستشرقين أكثر من عنايتهم بالمنتوج، وعلى النقيض من بوتفوا الذي رأى التلاقي فيما طرحه أدونيس في دروسه أكثر من التنافر.

الشعرية العربية ومراحلها
يقدم أدونيس، في الثمانينيات من القرن العشرين، وقد اكتملت رؤاه النقدية أربع دراسات مركزة ومكثفة تحمل عناوين (الشعرية والشفوية الجاهلية، الشعرية والقضاء القرآني، الشعرية والفكر، الشعرية والحداثة) وكأنه بذلك يؤرخ للأدب العربي شعرياً، من الجاهلية، لكنه اختار تقسيماً آخر لهذه الرؤية، فالزمن وللقرش التاريخي كان ظلاً، وصنعته الشعر وطريقته والمؤثرات منه هي المجال الرحب الذي وقف عنده، دخل كالسهم في العمق، ودون أن يحمل لافتات حملها التقليديون من شك وشفاهية وتدوين، وما أثاره في هذه الدراسات غاية في العمق، ويمكن الاسترشادية قبولاً أو رفضاً لإعادة تقييم التجربة الشعرية العربية وفق معطياتها وظروفها، بعيداً عن الإدانة والتقديس، ووفقاً لمنطلق أدونيس فقد قسم دراسته إلى عدد من الفقرات مسترشداً بالنقاد العرب الذين رافقوا رحلة القرآن الكريم وإعجازه وصولاً إلى ابن خلدون، وإلى الأطر الناظمة التي جاءت لاحقاً لتضع نهجاً لا يحيد النقاد عنه جيلاً بعد جيل، واللافت أن أدونيس كعادته يطرح تساؤلات ولا يقدم إجابات، لأنه لا يريد إقفال باب الرأي، ولا أن يتبع أسلوب المقعدين السابقين نفسه في نسف ما سواهم، وبعد أن يقرر أن الشعر الجاهلي يحمل اختلافاً يقتضي قراءات نقدية مختلفة يصل إلى طرح يتركه للناقد والقارئ، في جو ملبّد بالألم للأحادية «قراءة الشعر الجاهلي تكشف عن تنوعه الاختلافي مما يفترض تنوعاً في الفهم والأحكام النقدية» هل كان التنوع في النظر إلى الشعرية الجاهلية موجوداً، لكنه طمس أو منع؟ لماذا؟ وكيف؟ هل كانت هناك سلطة تستأثر بالخطاب التقعيدي إلى درجة تجعل منه هو نفسه سلطة تلغي كل خطاب آخر؟ وما هذه السلطة؟ أهي دينية؟ أهي لغوية، أهي قومية؟
تساؤلات وكلها تأتي على الفهم ولا تأتي على الوجود، وهذا حق الناقد المبدع في قراءة الإشكاليات وتفسيرها.
وهنا لا يعني القارئ ما يقوله أدونيس تحديداً، فقد يقول ويخطئ، بل يعنينا ما يطرحه من تساؤلات، هذه التساؤلات المعرفية والمنهجية التي تفتح الآفاق للقراءة لا للتقرير، المهم أن توضع القضايا الكبرى في سياقاتها التاريخية بعيداً عن السلطوية الفكرية التي تلغي باب الاجتهاد ليس في الدين والشرع وحده، بل حتى في قراءة الشعر وتحديد مآلاته!
وأدونيس وحده بين المفكرين والأدباء العرب يبحث عن حركية القراءة والفهم، ومن هنا تنبع أهميته، فهو شخص غير صدامي- فكرياً- وهو يسلم حتى بالسلامة للآراء الشرعية، ويترك للمتدينين ميدانهم، ويبحث عن ميدان القراءة الجديدة، ليبقى الدين حالة فردية!
ولأنه ليس من مهمتنا تلخيص الكتاب، خاصة إن كان الكاتب أدونيس، ففي كل فاصلة رأي أختم بنتيجة لم تتغير عنده في أي شأن ناقشه فكرياً أو شعرياً «يبدو لي أن الحداثة زمانية ولا زمانية في آن؛ زمانية لأنها متأصلة في حركية التاريخ، وفي إبداعية الإنسان متواصلة في تطلعه وتجاوزه. ولا زمانية لأنها رؤية تحتضن الأزمنة كلها، ولا تتأرجح بمجرد التاريخ السردي، شأن الوقائع والأحداث، إنها عمودية، وسيرها الأفقي ليس إلا الصورة الظاهرة لباطنها العميق» بهذا التكثيف المدهش يعطينا أدونيس التفسير للظواهر الأدبية والتاريخية والأحداث، وربما يكون غيري فهم أول مرة معنى أن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكنه ظاهرة عمودية قد تطغى في الامتداد الأفقي المرئي.. وهذا ما أكده أدونيس في حديثه الموسع لـ«الوطن» عام 2010 مميزاً بين الحالة الفردية والجمعية، وها نحن بعد تسع سنوات نكتشف أننا لم نقرأ، ولم نهتد إلى الصواب، ونعود سيرتنا الأولى، ويبقى يبحث عن الهوية والثقافة في كتابه المهم (النظام والكلام) الذي ناقش فيه ببراعة الهوية والثقافة والسياسة وعدداً من القضايا التي تقف في وجه الأمة، وها هي تتخبط في البحث عن تفسير لها مثل العروبة، العقلانية، العلمانية، العدالة، الخرافة، الغباء، الطغيان، الحقيقة، أخلاقيات الحوار، وغيرها من القضايا التي تظهر بثوبها البسيط لنكتشف أنها وراء كل أزمة وحرب وإلغاء، وخاصة عند نزوعها إلى اللبوس العقدي الديني.

مطارحاته والقيم
في كتابه المهم الذي يحمل عنوانه دلالات كبيرة قد لا يتنبه القارئ إليها بشكل مباشر (النظام والكلام) نقف أمام كتاب فكري نوعي للغاية، فيه طروحات أدونيس في أعمق الدلالات والمعالجات، فقد سبر غور الفكر العربي، والمجتمع العربي ليقدم شكلاً من القراءة والمعالجة التي يندر أن نجدها، خاصة أن الكتاب لا يحمل لافتات عريضة ليعالج أزمة أو حرباً، ذلك لأن أدونيس بوعيه وعمقه يريد أن يأتي على موضوعاته بمبضع ناقد جرّاح، يعالج المشكلات من جذورها وأسبابها، ولا يكتفي عند النتائج، لأن معالجة الواقع وحده من دون العودة إلى جذور المشكلة، أي مشكلة لا يعطي المجتمع دفعة للتقدم إلى آفاق واسعة، ففي (بلاغة الإلغاء) يقدم أدونيس رأياً تشريحياً يعبر عن أنه رؤية شخصية للثقافة والديمقراطية في المجتمع العربي، ويردف قائلاً: استناداً إلى تجربة عشتها وأعيشها، وهي شهادة لا تلزم أحداً غيري، إدراكان على غاية القيمة جعلا أدونيس يقول عن كلامه بأنه لا يلزم أحداً، أولهما إحساسه العالي بديمقراطية الرأي، وثانيهما إدراكه لخطورة ما سيتحدث فيه، والعنوان يكفي ثقافة الإلغاء، فأدونيس يدرك أن الإشكالية بين المجتمع العربي والديمقراطية غاية في التعقيد لأنها لا تقوم على الحوار بقدر ما تقوم على الإلغاء، وعندما ندخل في تحليله قد لا يتوافق كثيرون مع رأيه، والنتائج، لكن أحداً لا يمكنه أن ينكر ما وصل إليه من رأي استخلصه مما عاشه ويعيشه، ويود لو أنه ينتهي منه، أو ينتهي منه من يأتي بعده «ولئن صحّ أن ثقافة المجتمع هي التي تتمثل في معيشه وتصوراته الجماعية وقيمه ومعتقداته، فإن ثقافة المجتمع العربي- ثقافته الراسخة والسائدة، على مستوى مؤسساته، إنما هي في المقام الأول ثقافة دينية مرتبطة بأخلاق، وقيم دينية، وبمعرفة دينية،و بمتخيل ديني والثقافة هنا لا تتولد من حركة البحث عن المجهول، وإنما تتمثل في نوع من الممارسة الأخلاقية لما تقدمه المعرفة الدينية، الثقافة، هنا، أشبه ببيت جاهز بناه الدين، والفرد يولد ويعيش داخله، وعليه أن يسلك ويفكر ويعمل بمقتضى الدين، إنه، بتعبير آخر، خصوصاً في المجتمعات المكونة من عناصر دينية وقومية متباينة، ينشأ في ثقافة تجعله يفكر ويعمل كما لو أنه لا يقدر أن يعيش إلا في نفي الآخر».
نص خطير وعميق فأدونيس يظهر أن الثقافة في المجتمعات العربية تبنى على الجانب الديني والعقدي، وهو هنا لا يتحدث عن شريعة دون أخرى، ولا عن مذهب دون آخر، ولا عن طائفة دون أخرى، فالفكر الديني له نتائج عديدة حسب رؤية أدونيس:
– البناء الثقافي لا يعتمد على البحث، لأنه جاهز ومعد للإنسان قبل أن يأتي.
– المجتمع الديني هو الذي يحدد آليات التفكير، وإن كان المفكر لا ينتمي إلا أنه داخل البيت المعد مسبقاً.
– الثقافة الدينية في المجتمعات المتعددة المتباينة تقوم على إلغاء الآخر.
– المجتمع المعد سابقاً يوهم أبناءه بعدم إمكانية الحياة مع الآخر لأنه لا يشاركه البناء الذي نشأ في ثقافته.
– المجتمع الديني يحول الممارسة الثقافية من بحث وسؤال عما لا يعرف إلى ممارسة أخلاقية لما هو معلوم، وهذا يؤدي بالضرورة إلى رفض الآخر.

التجارب وما يمكن أن نخرج منها
لو استعرضنا التاريخ العربي والإسلامي فإننا سنجد مفاصل هذا التاريخ مقترنة بالعنف والقسوة والقوة، ومن المفترض بعد كل مشهد من العنف أن يتم الانتقال إلى مرحلة أخرى، ولكن حركة التاريخ العربي تتوقف عند العنف للعنف والإلغاء للآخر وثقافته، وهنا يقدم أدونيس قراءته «ألم يسل الدم في بلادنا، ألم تتطوح الرؤوس؟ فأي تاريخ أنتج هذا العنف؟ إنه لم يولد أي نقد جذري للتاريخ نفسه، بل على العكس، ردّه إلى بدائية وحشية، وقد مورس هذا العنف، في وجه منه، باسم فكرة ما عن الدين الثقافة، أي باسم تصور ميتافيزيقي ما، لكن لم يؤد حتى إلى نشوء قراءة جديدة للدين- باسم الإنسان وحاجاته!».
يريد أدونيس من حركة التاريخ أن تعطي دروساً، أن تحفز للقراءة وإعادة التقييم، وهذا ما كان من الصراع بين المؤسستين الدينية والسياسية في أوروبا، فتمت إعادة القراءة والتقويم لتنهض أوروبا، بينما كل صراعاتنا والتي يشنها الساسة والاقتصاديون والاستعماريون والمصلحيون تنتهي دون فائدة تذكر في إعادة النظر بما يفيد الإنسان وحياته، وكل ما يكون بعد كل صراع وباسم الدين أو الطائفة أو المذهب هو النكوص إلى الوراء، وهذا يعني الإعداد والاستعداد لجولة تالية من العنف، ولننظر إلى خاتمة قراءته في هذا الكتاب: «إن الأزمة ا لعربية الحقيقية ليست سياسية إلا ظاهرياً، فهي، جوهرياً كما تبدو لي، ثقافية، من حيث إن الثقافة، وبخاصة في جوانبها الإبداعية هي الإفصاح الأعلى عن الهوية».

وللحوت الأزرق موسيقاه
في موسيقا الحوت الأزرق أكثر القضايا الفكرية إشكالية في المجتمعين العربي والإسلامي، وإن كان العنوان لا يوحي بذلك لمن يكتفي بقراءة العناوين، إلا أن توقيع أدونيس يدفعنا إلى قراءة ما في هذا المنجز الفكري، وللحق فإن هذا الكتاب، على الرغم من أهمية طروحات أدونيس، هو من الأكثر أهمية وخطورة في الميادين الفكرية عامة، وإذا ما استعرضنا الفصول والعناوين أدركنا عمق ما في الكتاب: البداية، التقليد، الهوية، حروب المعنى، الشعر العربي من منظور كوني، الكتابة والعنف، الحداثة المريضة، الحجاب والجسر، الخوارزمي وديكارت، فيما وراء التقنية والعولمة. وضمن هذه العناوين تأتي الطروحات العميقة التي تستدعي منا الوقوف أمامها، خاصة بعد حرب كبرى جرت على أرض سورية العظيمة، وكانت هذه الطروح قد قدمت قبل الحرب، فلم نقرأ ولم نتعرف! فهل نقرأ اليوم لنخرج من التفاصيل والدهاليز الخانقة؟!
«ماذا يفعل شخص لا يرى الحقيقة في المعطى، أيا كان، ومن أي جهة أتى؟ ماذا يفعل شخص لا يرى خارج تجربته الشخصية الحية ما يطمئنه فكرياً؟ ماذا يفعل شخص لا يرى الحقيقة إلا بحثاً وتساؤلاً يشترك فيهما الجميع دون مسبقات من أي نوع كانت؟ وأن القصائد كلها، والأفكار كلها، والأشياء كلها يجب أن تكون من أجله، وفي خدمته، وأن تتكيف مع حياته وحاجاته وصبواته، وأن تموت وتولد من أجله؟ في ثقافة- كل شيء فيها كأي شيء: الحابل والنابل في سلة واحدة، وكل شيء يفقد خصوصيته ومعناه الخاص. من دجلة إلى الأطلسي».
بهذا الفهم يحدد أدونيس مشكلة الإنسان العربي الذي يرى نفسه محورياً لا شيء يدانيه، يدور حول ذاته وأنانيته وآرائه، وهو في ثقافة الإلغاء، إلغاء الآخر ووجوده وحياته وكل ما يريد، فمن دجلة إلى الأطلسي تمتد المشكلة.
ويرى أدونيس كمّ العنف والقتل الذي يرفع راية الدين وقيمه، فيحلل ويكتب، فيدافع عن الإنسانية، ويحارب ما يفعله الأميركيون من قتل للأبرياء في أفغانستان، ويحارب القتل مقابل الإيديولوجيا، يختلف مع الإيديولوجيا، كما يختلف مع القتل.. ولا يقبل أن يوضع فوق الحرب الإرهابية اليوم اللافتة الإسلامية، وينظر إليها على أنها حالة فردية، أوردة فعل مجتمعية، ولعل قراءته لشخصية ابن لادن من أدق القراءات: «إن جهادية القاعدة شيء آخر غير الجهاد الإسلامي، إنها جهادية قائمة على تأويل خاص للإسلام- بحيث يرفعها هذا التأويل إلى مرتبة المطلق، نظراً وعملاً، والمفارقة هي أننا لو حللنا الأسلوب الذي استخدمه ابن لادن لتحقيق هذه الجهادية، فإن هذا التحليل يؤدي إلى نتيجة واحدة: هذا الأسلوب لا يحقق هذه الغاية، ويوصلنا التحليل إلى أحد أمرين، إما أن لابن لادن قضية لا يعرفها أحد إلا هو، وإما أنه أكثر صورة عرفها التاريخ تتجسد فيها الدونكيشوتية ويبدو في الحالتين، كأنه يحارب عدوه هكذا لوجه الحرب، وكأنه يمجد العبث، ويموت ويميت من أجل اللاشيء».
فنحن أمام فهم يتعارض مع الجهات التي تتبنى ما يفعله ابن لادن والجهات التي تحارب ابن لادن.
إذ إن هذا التحليل يجعل الفكر الجهادي الإسلامي والمجتمع الإسلامي في منأى عن المحاربة التي افتعلتها أميركا من أجل قتل الأبرياء، وابن لادن ورأيه الجهادي لم يكن سوى توجه عبثي لا يعبر عن الدين الإسلامي، بل يذهب أدونيس إلى وجهة أكثر تحديداً، لم يقدم عليها علماء الدين، وهو أنه يخرج القتل والعنف اليوم ليس عن الإسلام وحده، بل حتى عن الفكر الجهادي الإسلامي ورأيه يعتمد على الغائية في هذه الحرب وهذا القتال.. فالجهاد الإسلامي له غايات.. بينما ما يفعله ابن لادن ومن توجه توجهه بشكل عبثي ولوجه القتل والموت للذات والآخر.

آفاق الكتابة المطلقة
وعند المنجز المتعلق بالقرآن والكتابة يقف أدونيس مطولاً في كتاب شائق ومهم هو «النص القرآني وآفاق الكتابة» ومن النظرة الأولى، ومن ثم القراءة المتأنية يعود أدونيس الناقد اللغوي والأدبي، المهموم بالمعرفة وآفاقها، الداخل في النص المقدس، وهو لا يمكنه الخروج منه، ومن أنه الكتاب ولو حاول ذلك، لان الكتاب يشكل جزءاً مهماً من تكوينه الفكري والثقافي وربما يشكل أيضاً هاجسه التنويري في الفهم والقراءة، وليس في الرفض والإلغاء، وفي كل ما كتب أدونيس، من شعر ونقد أدبي ولغوي، ومن أبعاد فكرية لم يقترب من الإلغاء، ولم يفكر لحظة في نسف المسلمات لان هذا النسف ببساطة يؤدي إلى تدمير هويته، وينسف في الوقت نفسه الأرضية الثقافية المعرفية والصوفية التي كان لها الفضل في تفتيق زهرة أدونيس المعرفية، وأدونيس نفسه يفخر بهذه الأرضية الحاضنة لثقافته وفكره والتي زودته بما يجب للانتقال إلى عالم السؤال والتفكير: «يجيب النص القرآني عن أسباب الوجود والأخلاق والمصير، وهو يجيب عن ذلك بشكل جمالي- فني، ولهذا يمكن وصفه بأنه نص لغوي- أعني لا بد لفهمه من فهم لغته أولاً، وهذه اللغة ليست مجرد مفردات وتراكيب وإنما تحمل رؤيا معينة للإنسان والحياة، والمكون أصلاً، وغيباً.. ومآلاً.. وقالوا: إنها كتابة لا توصف، وسر لا يمكن سبره، واتفقوا على أنها نقض لعادة الكتابة شعراً وسجعاً، خطاباً ورسالة، وأنها نوع من النظم في تركيب جديد، وفي هذا الأمر لم يخرج أدونيس عن رؤى العلماء القدامى في الحديث عن نظرية النظم القرآني وإعجازه.
والمنطق الصوفي، والمآل الكوني عند أدونيس جعله يقف وقفة مميزة عند بدايات السور المعجزة في الحروف المقطعة، وفي الحقيقة إن هذه الحروف لم تجد إلى اليوم تفسيراً قاطعاً لا يقبل الشك، وكل مفسر من المفسرين قدم آراء تختلف عن آراء غيره، وجميعها تصب في الإعجاز اللغوي والعقلي، وفي بحثه يجمع أدونيس هذه الآراء وينسبها، لكنه يخص ابن عربي فينقل رأيه الذي يعرج في مفهومات أكثر عمقاً ودلالة، وربما أكثر حرية في الفهم والتفسير، فبعد أن يذكر آراء المفسرين حتى يصل إلى رأي أهل السنة في حساب الجّمل يذكر رأي ابن عربي «هذه الحروف مراتب، منها موصول، ومنها مقطوع، ومنها مفرد ومثنى ومجموع، فالمفرد يشير إلى فناء الإنسان الفرد، والجمع إشارة إلى الأبد، والإفراد للبحر الأزلي، والجمع للبحر الأبدي، والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني، والألف إشارة التوحيد، والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد واللام بينهما واسطة».
تفسيرات في آفاق الكتابة القرآنية يضعها أدونيس في سياقها اللغوي، والنقدي والمجتمعي، ولا يقف عند النص القرآني بل يمتد حديثه إلى الشعر العربي قديمه والجديد ويجيب عن أسئلة، وفي الوقت نفسه يطرح أسئلة أخرى جديدة، وكل ما يقدمه يسبقه بالتعبير عن أنه رأي شخصي، لكن المتفحص يدرك أن أدونيس، وهو جواب الآفاق، غزير المعرفة، المتصل بالآخر يقدم تعليلات دون أن يستثني منها نفسه فانظر إلى أدونيس ومكانة الشعر التي يراها «نحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى جمهورية أخرى، هي جمهورية الكتابة- حيث تعنى بحقوق أخرى هي حقوق الشعر، والفن، والفكر والأدب» ومن ثم يقرّ مكانة الأدب والفن والكلمة برأي قاطع ومؤلم «نحن الآن حين تنكسر قلوبنا لا نجبرها بذكرى ما مضى من المؤسسات بل بذكرى امرئ القيس، وبذكرى مبدعينا الكبار في كل ميدان، وهذه الذكرى تعبر القرون، كأنها لتوها من ذرا قاسيون، الملوك امّحوا: أبو تمام باق، هذا معنى الإبداع، وهنا يكمن التاريخ الحقيقي للشعوب، فأبو تمام وأمثاله هم الذين يجددون حساسيتنا ويزيدون طاقتنا على الحياة، ثمة من يقود البشر ويسوسهم سطحياً، وثمة من يفعل ذلك عميقاً: ذلك هو دور الإبداع، ما من سيد سياسي، بحصر المعنى، قدر أو يقدر أن يؤثر في البنية الحميمية لوجود الإنسان أو يقود جوقة أعماله. الشاعر فعل ذلك والفنان يفعل ذلك، ذلك أن الإبداع هو الصوت الذي يغني عالياً، وعلى الوجه الأكثر كمالاً، ومن خلال هذا الصوت تستشف الأبدية التي توحدنا عبر الزمن الذي يفتتنا؟
من ذا الذي قرأ أدونيس حقاً قبل أن يعطي رأياً أو يقدم إدانة؟ بحاجة ماسة نحن للاقتراب من مشروعه الفكري، ومشروعات المبدعين الكبار لنختار ما يناسبنا للانطلاق من التفتت والعنف، ولعل نشر هذا المشروع يضيف عدداً، ولو محدوداً من القراء الفاعلين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن