لأن أخطر اللحظات في المعركة هي لحظات ما قبل الوصول إلى النصر حين يمكن أن تفتر الهمم وتتراخى، فإن الذكرى السنوية الثالثة عشرة للانتصار في حرب تموز مناسبةٌ ملائمةٌ لإعادة جردة الحساب، وللمقارنة بين وضع جبهة المقاومة عشية تلك الحرب وبين وضعها اليوم، بعد أن وصلت المواجهات الساخنة في المنطقة من اليمن إلى هرمز وصولاً إلى سورية، إلى خواتيمها وشهورها الحاسمة.
لقد جاءت حرب تموز 2006 ضمن سياق المشاريع العسكرية الأميركية التي هدفت إلى إعادة هندسة المنطقة الأهم في العالم، الشرق الأوسط، بما يضمن قرناً جديداً تستمر الولايات المتحدة خلاله ببسط هيمنتها المطلقة على السياسات الدولية، حسب ما ورد في دراسة «قرن أميركي جديد» التي تقدمت بها مجموعة الباحثين الإستراتيجيين النافذين في دوائر القرار الأميركي خلال زمن إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش.
لم يكن الهدف الحقيقي للحرب استعادة الجنديين الإسرائيليين المأسورين لدى حزب الله، واللذين كانا مجرد الذريعة فقط، تدل على ذلك تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية وقتها كونداليسا رايس التي بشرت بولادة شرق أوسط جديد نتيجة المعركة، بل إن إسرائيل كما تبين لاحقاً أجبرت على خوض الحرب حسب التوقيت الأميركي وقبل استكمال استعدادها لها، فالولايات المتحدة كانت تحت وطأة استنزاف خطير لقواتها في العراق على يد المقاومة العراقية المدعومة من كل من سورية وإيران، وكانت حرب تموز آخر الردود العسكرية التقليدية الممكنة على محور طهران دمشق.
يمكن تلخيص الأهداف الحقيقية للحرب كما استعرضها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر اللـه في خطابه الأخير منذ أيام، بالتخلص من آخر ما تبقى من بؤر المقاومة في العالم العربي ممثلةً في الدولة السورية، وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، تمهيدا لعزل إيران وإسقاطها، إذ لم تكن اليمن ولا العراق كدولتين ضمن حسابات جبهة المقاومة يومها كما هما اليوم.
وللمقارنة مع الزمن الحاضر فقد وصل التآكل في النفوذ الأميركي في العراق إلى درجة أن تضطر إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للقبول بخرق حكومة بغداد للعقوبات الأميركية على إيران وهي في ذروة المواجهة معها، وإلى اضطرار الأميركيين إلى التغاضي عن شراء العراق الغاز والكهرباء الإيرانيين، فواشنطن تدرك أن لحلفاء طهران العراقيين اليوم جيشاً مؤلفاً من ربع مليون جندي ممثلا بـ«الحشد الشعبي»، خاضوا بنجاح أشرس المعارك مع داعش، وهم متلهفون لتصفية آخر ما تبقى من وجود عسكري ونفوذ سياسي أميركي على أرض العراق في حال تجرأت واشنطن على مزيد من الضغوط على الحكومة العراقية.
كما لم يكن لمحور المقاومة عام 2006 حلفاء دوليون كما اليوم، فقد نص البيان الروسي الرسمي الأول في مستهل الهجوم الإسرائيلي على لبنان، على مطالبةٍ صريحةٍ لحزب اللـه بضرورة إطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين فوراً، طبعاً تغيرت النظرة الروسية للمقاومة اللبنانية جذرياً بعد المعركة التي استخدام مقاتلو الحزب خلالها صاروخ «الكورنيت» الروسي الصنع الذي أمدتهم به سورية ضمن تكتيك خاص ابتكروه، وذلك لإلحاق خسائر فادحة بأفواج الدبابات الإسرائيلية الأحدث من نوع «الميركافا»، ليكون النجاح الباهر للكورنيت في مواجهة ما ادعى الإسرائيليون أنه أكثر دبابات العالم حصانةً أولى خطوات إعادة الألق للسلاح الروسي عالمياً.
لقد زجت الولايات المتحدة في بداية الحرب بكل احتياطها الإستراتيجي دعماً لإسرائيل، ولم يقتصر هذا على الجسر الجوي الذي أقامته لنقل الإمدادات العسكرية، بل تمثل أيضاً في إسقاط القناع عن الرجعية العربية التي عملت لكن بالخفاء على خدمة المشروع الصهيوني منذ حقبة تأسيسه الأولى، فالتصريح السعودي الرسمي الشهير في بداية المواجهة والذي اتهم حزب اللـه بـ«المغامرة»، شكل أول سابقة لوقوف طرف عربي علناً في خندق العدو الصهيوني بمواجهة طرف عربي آخر، وذلك منذ بدأ الصراع على أرض فلسطين، ويمكننا اليوم تذكر ادعاء الحكمة السعودي ذاك، ومقارنته بالمغامرة السعودية الحالية في اليمن وما نتج عنها فضيحة أخلاقية كبرى، ومن خسائر عسكرية واقتصادية وإستراتيجية سعودية فادحة، ومن انكشافٍ للعمق السعودي أمام الصواريخ والطائرات المسيرة اليمنية.
لكن الدور السعودي في حرب تموز لم يقتصر على مجرد التصريحات الكلامية، ولا على مجرد التحريض الطائفي، بل واكبه دور خطير لحلفائها اللبنانيين الذين كانوا يملكون يومها الأغلبية في الحكومة اللبنانية، التي كان رئيسها فؤاد السنيورة يصر على ألا تنتهي الحرب قبل نزع سلاح المقاومة اللبنانية، ونشر قوات دولية على الحدود اللبنانية مع كل من سورية وفلسطين.
لقد استمرت مكانة السعودية في العالم العربي والمستندة على قداسة دينية مدعاة، بالتدهور منذ موقفها المخزي في تموز 2006، حتى وصلنا اليوم إلى المشهد الفارق الذي استقبل فيه أطفال فلسطين الصحفي السعودي المطبع بالبصاق في ساحات الأقصى، ليبشر هذا المشهد بالانكشاف النهائي لدور الرجعيات العربية الخطير والخفي في دعم ومساندة المشروع الصهيوني منذ ثورة 1936 التي تدخل الملوك العرب لدى الفلسطينيين لإيقافها، مقابل وعود بريطانية جوفاء بإيقاف الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وصولاً إلى التآمر السعودي على الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر وحركات المد القومي العربي في الستينيات من القرن الماضي، وختاماً بمحاولة محاصرة إيران الثورة ودورها في دعم السوريين واللبنانيين والفلسطينيين بمواجهة إسرائيل، وذلك عبر إشاعة الدعوات الطائفية المسعورة. ولا شك أن صمود محور المقاومة خلال السنوات الصعبة الماضية كان هو العامل الأساسي في ذلك الانكشاف التاريخي، وفي تحقق الإجماع الفلسطيني على رفض «صفقة القرن» اليوم، فلنا أن نتخيل إلى ماذا كان سيؤول الحال لو تم سحق حزب اللـه وإسقاط الدولة السورية أو هزيمة إيران.
صحيح أن المقاومة امتلكت في عام 2006 ما مكنها من منع الدبابات الإسرائيلية من اقتحام بلدات الجنوب، وصحيح أن صواريخ المقاومة انهمرت على العمق الصهيوني بمعدل متصاعد ودون توقف، حتى أجبرت إسرائيل على طلب وقف إطلاق النار دون الوصول لأهداف الحرب، لكن حزب اللـه حينها وبإجماع المعلقين والمحللين العسكريين الإسرائيليين لم يكن يمتلك ما يملكه اليوم من صواريخ دقيقة، هي حسب ما شرحه لنا أمينه العام قادرةٌ على تدمير كل الأهداف الإستراتيجية في منطقة القلب الحيوي لإسرائيل، ولا كان لديه خطط لاقتحام منطقة الجليل، كما هو عليه الحال اليوم بشهادة الحكومة الإسرائيلية نفسها التي قامت بتدريب مستوطنيها على إخلاء المستوطنات المحاذية للحدود اللبنانية تحسباً لاقتحامها خلال الحرب القادمة.
كما أن سورية التي كشف أمين عام حزب اللـه أنها كانت مستعدة لدخول الحرب لو أن الأحوال قد ساءت، لم تكن يومها تمتلك نظام دفاع جوي بعيد المدى مثل «إس300» الذي حصلت عليه اليوم بفضل تعميق علاقاتها مع روسيا، ولا كانت إيران قد طورت بعد أنظمة دفاع جوي حديثة كالتي أسقطت بواسطتها أحدث الطائرات المسيرة الأميركية، ولا كانت قادرة على فرض سيطرتها على مضيق هرمز أهم معبر مائي في العالم، كما هي قادرة اليوم، ولا كان حلفاؤها اليمنيون قد وصولوا إلى صنعاء وإلى مضيق باب المندب.
لقد رمى محور الولايات المتحدة وحلفاؤها خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية كل أوراقه سواء العسكرية أو الفتنوية أو الاستخباراتية في ساحات المواجهة، حتى فرغت جعبته دون الوصول لأهدافه، لكن محور المقاومة يبدو وكأنه بدأ للتو بالانتقال من الدفاع للهجوم، ولعل حادثة إسقاط الطائرة الأميركية المسيرة واحتجاز ناقلة النفط البريطانية في هرمز، وما شرحه أمين عام حزب اللـه على خريطة فلسطين خلال مقابلته التلفزيونية الأخيرة، هي فقط مجرد عينات عن القادم الذي لن يكون سهلاً على جبهة حلفاء واشنطن في منطقتنا.