البشرية التي أنتجت من خلال الإدراك العقلي عبر تتابعه التاريخي قيماً تدرجية مهمة، عملت من خلال انتشارها إلى الانتقاء منها وتناقلها، وأسست من خلالها قواعد أبرزت فلسفات دينية بسيطة ومعقدة وعلوماً مذهلة ومنتجات خدمة هذا العقل، ما دعا التنوع للتمسك بها أو اعتناقها، بل أكثر من ذلك وصلت إلى اعتبارها أساس الحياة، وعليها تبنى محاورها، وها هي الآن تحاول عبثاً أن تحرر ذاتها منها، من دون القدرة على فعل ذلك، لكنها أوجدت ناظماً جدياً في مقابلها قابلاً للتطبيق ومقنعاً أيضاً لدرجة كبيرة، ألا وهو القانون الذي يخضع جميع البشرية من متدينين وغيرهم إليه، حيث وجدت فيه مسألة تتعلق بالتقدم والتطور أكثر مما تتعلق بعقائد التديّن، هذا ما أدى بالدول إلى انتهاج الركب الحضاري وتحويل المجتمعات إلى متحضّرة. وهنا نسأل: متى تكون الشعوب متحضرة؟ وما آليات الحكم على الشعوب بأنها متخلفة؟ وهل تقدر الشعوب على تغيير ما تتبناه من عقائد دينية أو غيرها بسرعة؟ والقاعدة تتحدث عن أن أي تغيير يذهب إلى مستوى لا مرونة فيه، قد يخلق تضاداً هائلاً مع ما يراد الوصول إليه، وكل هذا مرتبط بالأسس الأخلاقية المنطقية.
المشكلة الكبرى التي تواجه البشرية اليوم وتزيد من متاعبها وآلامها هي البحث عن القيم الأخلاقية، التي غدا الحديث عنها كبيراً، والتصرفات تشير إلى التضاد معها تماماً، فالذي نشهده ونتابعه نراه في طغيان الباطل على الحقوق، والظلم على العدالة، والخيانة على الأمانة، وانفصال الجوهر عن المظهر، فلم يعد للصدق وجود، ولا للنخوة والشهامة حضور، وتضاءلت حرية الإنسان، حتى وصلت إلى أضيق الحدود، رغم ادّعاء الناس بأنهم متدينون يصلّون ويصومون ويحجون، وإذا حاججتهم أجابوك بأن العلاقة مع الدين غير العلاقة مع الناس، فتبديل المواقف والتلون والالتباس غدا شعار سواد الناس، وكل ما يطرح تجد فيه الكثير من الابتزاز والابتذال والكذب والنفاق، وذهب الناس إلى التقليد بدل الإبداع، وإلى التجميل خوفاً من انكشاف مواطن الخلل.
هل استوعبنا قيم الحياة وجمال السلم الإنساني؟ أليست الأرض التي تجمعنا مشتركة؟ أليس فكرنا هو من جعلنا فرقاً وأشتاتاً؟ وساعد على ذلك الانقسام الديني ليكيد بعضنا بعضاً، ويلعن بعضنا الآخر، ومن هنا أجدني لا أدعو إلى المثالية، وإنما لقراءة المشهد الواقعي وما يحدث فيه، وهي دعوة للاصطفاء الذي إن وصلنا إليه استطعنا أن نقرأ الحال ونتجه لإصلاحه.
ما معنى وجدان الشعوب وإنسان لديه وجدان ضمن تركيبة العلاقات البشرية المعقدة؟ فهل يمكن لكائن من كان أن يمارس حياته من دون أحاسيس ومشاعر؟ حتى وإن كانت على نقائض، والأفضل فيها الإحساس بالواجبات الأخلاقية والشعور بالالتزام الاجتماعي والوطني، ومنه يمكن أن نقسم الأناسي إلى ثلاثة أنواع تبعاً لتصرفاتهم؛ أناس يتمتعون بالحواس، وينشدون في الحياة ملذاتها السيئة والجيدة من دون تمييز. وأناس الأخلاق، وهم أهم مكونات الحياة، لأن منهم الساسة والمفكرين والقادة والفاعلين المؤثرين والمنتجين والمبدعين، حيث يلتزمون بالواجبات، ويحرصون على إجادتها. وأناس الشؤون الدينية، الذين إن خرج الناس عنهم خرجوا من الحياة. فالإنسان لا تضيره الحياة، وإنما الذي يضيره هو عدم تقديره لقيمتها، وأي شعب يكتظ فكره بالأنا والبغضاء والحسد والتربّص والعجز قابل للتمزيق بعجالة، وإن لم يمتلك الأخلاق ويجيد فن التفكير، فلن يجيد أي عمل، والسبب عدم إيمانه ببعضه وبالآخر.
دققوا في ذلك فستعلمون أن أي شعب تملؤه الوساوس الغامضة وأعماله ردود أفعال ناتجة عن انفعالات غريزية لا يكتب له النجاح، فأين الأخلاق أمام كل ذلك؟ هذه التي تمثل منهجاً حقيقياً يربط المواطن بالوطن، يوقظ فيه معاني الإنسانية والكرامة، ويجعل منه مواطناً حقيقياً لا مستوطناً، وهنا نجد أن عامل الأخلاق يتجسد في أبهى معانيه، حيث تشمل جميع أعمال الإنسان التي تمس أبناء وطنه، وتؤثر في سلامة مجتمعه ودولته، فمعايير أي مجتمع تري تقدمه أو انحطاطه، فالأخلاق قواعد ومسلمات، تسيطر على وجدان الشعوب، وتوجه نشاطه نحو طلب المجد والرفعة لا الفرقة والذل والمهانة.
لذلك أقول: إنّ الدين في خدمة الأخلاق، والأخلاق في خدمة الإنسان، وبهذا تتحقق معادلة المجتمع الناجح والوطن الخلاق، وصحيح أن الحياة تفرض على الإنسان ضغوطاً كثيرة وكبيرة، تتطلب منه أن يتعلم الكثير، لكي يوائم بين نفسه وبينها، والتصدي لمهام معالجتها، وإفادة إنسان العصر الحديث ومنحه الكيفية التي يحلّ بها مشكلاته، ويوائم وجوده مع البيئة المعقدة التي تكثر مشكلاتها، وتتجدد باستمرار، هذا الذي يتحقق عند دمج الأخلاق بالعلم، لأن هذه المعادلة وحدها قادرة على النهوض بالمجتمعات.
إني أكاد أجزم أن الإيمان وحدة كلية تمتلك ثلاثة وجوه، الإيمان بالله الكلي السرمدي، والإيمان بالإنسان أهم مخلوق في ملكوت الله، والإيمان بما يريد أن ينتجه هذا الإنسان من أجل استمراره، وإنَّ فقدان أي وجه من وجوه هذا الإيمان يؤدي إلى انفلات الأخلاق، ولولا وجود الإيمان الدقيق لما كانت هناك أديان، وبالتالي لما كان لنا حضارات صانتها الإنسانية، حتى وصلت إلينا، وبها يستمر دور الإيمان فينا، فهل نستمر في بنائها ودعمها بالإنجازات؟ أم نهدمها ونرنو إلى أطلالها؟ وهنا أضيف أيضاً: إنه من الحماقة أن نسبق الزمن، ولكن من الحكمة أن ننتبه لما نحن ذاهبون إليه والتأكد من سبله، فالتحديات كبيرة وهائلة، وعلى المعنيين من مديري شؤون الأديان والقادة والمفكرين والمثقفين تحرير العقل البشري من الخرافات المسيطرة على العقل البشري، وإيضاح النواحي الأخلاقية وإظهارها، والتشدّد عليها، وتعزيز لغة الإيمان التي وحدها وبها يتم الدفاع عن الأديان، فالنظرات الإيمانية تهب الإنسان السلام والراحة، وتهدئ العقول المضطربة.
إن النظرات الأخلاقية القادمة من التمتع بنظم الأخلاق، التي تعزز الإيمان بالحياة، تحول الجهود إلى حالة استمرار فعالة، وتخلق فرصاً أكبر وأسمى، هذه وحدها التي توصل الإنسان إلى ما يريد، وتكسبه الخبرات ذات المعنى والتعابير البناءة.
لنغادر أنفسنا إذا كنا مشحونين بالأطماع والأحقاد، ولنمتلك أنفساً جديدة ممتلئة بالأخلاق والمثل والنهج السليم، فنلتقي مع حاجات وطننا ومصالح مجتمعنا، فلنكن مستنيرين، فالحياة الاجتماعية لا تستقيم إلا من العناصر والأرض، فلن نصل إلى الحقوق، إن لم نعرف ما في أنفسنا من خلل، ومادام الخوف والتقليد هما السائدين، ستبقى عقولنا ملتفة بالظلمات، فالأخلاق سكينة العقل والقلب وأمنهما، والشعب الذي لا يجيد التعامل معها ويعتنقها شعب منافق يعجّ بالسفه والحماقات والغش والمكر، وعندما تشيع المبادئ الأخلاقية نجد أن الشعب يتضامن مع دولته في حمل جميع التبعات، وتنتشر الثقة والمحبة، ويتجه الجميع إلى البناء وإعلاء شخصية الدولة من خلال إخلاصه لها، هذا الإخلاص الذي يبدأ من الذات، فالذي يُخلص يَخلص وهذا أهم.
يسقط الإنسان لحظة سقوط أخلاقه، هذا السقوط يستوعبه ويستعبد وجوده عبر إصلاحه، يكون قد مضى على حقيقة الاعتراف به رغم كل قدراته التي يستخدمها في الاحتيال لإخفاء أخطائه، إلا أن انكشافه متوقع حدوثه في أي لحظة، لذلك أقول: إن الأخلاق وجدان، والوجدان إيمان، يجعل المرء يدرك أنه جزء صغير من محيط كبير، وأن الحفاظ على هذا المحيط يعني الحفاظ على الثوابت العامة والخاصة، أي التقاء الشخص بالعام.
إن الإنسان الأخلاقي اختار نفسه بعزم وتصميم، نراه يحيا في وجدان عقلاني، جوهر إيمان نوعي، يحمله بأن عليه التزامات أخلاقية عليه تنفيذها بشكل دائم، ليس من الضرورة أن يكون الإنسان الأخلاقي متديناً، لكن بالضرورة أن يكون الإنسان المتدين أخلاقياً ووجدانياً.