ثقافة وفن

القصور الأمويّة شواهد على عظمة العمارة العربية … قصر الحير الشرقي.. مدينة متمددة في الصحراء

| المهندس علي المبيض

تعد القصور القديمة في سورية موروثاً مهماً سواء ما كان منها داخل المدن أم ما كان خارجها والتي تتميز بقدمها حيث يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 1300 عام ولا تزال تقف شامخةً تشهد على عظمة الفترة التي بنيت فيها، وتكاد تكون أغنى فترة في بناء القصور خارج المدن هي الفترة الأموية وخاصةً في أيام خلافة هشام بن عبد الملك ومن الممكن أن نقسم الحديث عن القصور إلى مجموعتين:
القصور الأموية وهي مهمة جداً نظراً لبقاء بعضها ماثلاً لغاية الآن بشكل جيد والقصور الأقدم عهداً من الإسلام والتي لم يبق منها إلا أطلال وركام ومعالم قليلة شاهدة على المرحلة التي بنيت فيها.

وعند الحديث عن القصور الصحراوية المنتشرة في بادية الشام قد يتبادر إلى الأذهان مباشرةً أنها بنيت لمجرد هروب خلفاء بني أمية من زحمة العاصمة الأموية دمشق إلى الصحراء، لذلك فمن الضروري أن نوضح أن بناء تلك القصور يعتبر من ضمن الإنجازات المهمة التي حدثت في عهد خلفاء بني أمية وكان لها الأثر الكبير في تطوير البنية التحتية في الدولة الأموية وزيادة قوتها الاقتصادية، وشجعت على ازدهار بعض الفنون مثل فنون العمارة، ولابد من التوضيح أن بعض هذه القصور ليست أمويّة الأصل بل أعاد الأمويون بناءها وترميمها واستخدامها إضافة إلى أن هذه المباني تحتوي في مجملها على آبار لتخزين المياه وبرك كبيرة الحجم وهذا يدل على أنه كان هناك استيطان واستصلاح الأراضي لزراعتها، كذلك وجد في بعض القصور تحصينات تدل على أنها كانت تستخدم أيضاً كحصون دفاعية أو وجود عسكري رمزي للمراقبة ولفرض وجود وسيطرة الدولة، كما أن بعض هذه القصور ونظراً لوقوعها على طريق الحج والتجارة من وإلى بلاد الشام والحجاز كانت تستخدم كمحطات للاستراحة والتزود بالماء والمؤن ومن الممكن أن تكون بمنزلة منتجعات للراحة والاستجمام والاسترخاء بعيداً عن روتين العمل الرسمي اليومي حيث كان يقصدها الخليفة ليمارس فيها هواياته كالصيد والتنزه، وهذه القصور كانت تزيّن بالزخارف والرسوم النباتيّة والهندسية والصور والتماثيل إضافة إلى أنها قد تكون بهدف الاطلاع على الواقع المعيشي للقبائل البدوية والتواصل معها والتعرف إلى شيوخ العشائر ووجهائها وتقديم الدعم لهم من خلال حل مشكلاتهم وتلبية احتياجاتهم ومطالبهم المعيشية لضمان ولائهم وتقوية روابط الانتماء وحثهم على تجنيد أبنائهم في جيش الخليفة لصد الحركات التي كانت تهدد الدولة، وقد يكون بناء هذه القصور في تلك المناطق بهدف تنشيط الزراعة وتشجيع ممارسة الأنشطة الزراعية فيها والتي تلبي حاجات معيشية ضرورية للمجتمع وتوفر فرص عمل لأبناء القبائل المحلية وتشكل موارد مهمة.
بنى الأمويون العديد من القصور خلال العصر الأموي وظهرت قصور الخلفاء بشكل لافت في العديد من المناطق حيث أحصى الباحثون أكثر من ثلاثين قصراً أموياً في بادية الشام تم بناؤها وفق أسلوب معماري موحّد ومخططات متشابهة وتتكون من مواصفات هندسية ثابتة تقريباً وهي السور المحيط والفسحة الداخلية التي يشرف عليها أروقة وتضم غرفاً متعددة مساحاتها ووظائفها مختلفة، ويتكون القصر عادةً من طابق واحد أو طابقين ويأخذ السور الخارجي وظيفةً دفاعيةً فلذلك يكون مرتفعاً ومصمتاً خالياً من الفتحات والنوافذ ولا يحتوي على زخارف أو نقوش، وقد يضم السور أبراجاً يكون دورها في حال وجودها تدعيم الأسوار من جهة ولإظهار المنعة والقوة من جهة أخرى.
ومن أعظم ما تبقى من تلك القصور الصحراوية التي شيّدها الأمويون خارج المدن في بادية الشام قصر الحير الشرقي وقصر الحير الغربي ويعتبران من أشهر القصور الأُموية التي بنيت لأي من الأغراض والغايات المعروفة وفي الحقيقة فإن جميع تلك القصور تعبِّر عمارتها وكذلك زخارفها عن الخبرة التراكمية الكبيرة التي حصل عليها أبناء هذه المنطقة من فنون وعلوم البلدان التي انضوت تحت راية الدولة الأموية، حيث تأثروا بشكل مباشر بالفنون المعمارية الساسانية في تشييد المباني الضخمة والقصور ويعتبر هذان القصران نموذجاً للفن المعماري الأموي والذي انتشر في الأندلس بعد ذلك مثل قصر الحمراء في غرناطة وهو من أكثر الأماكن التي تعكس الهندسة المعمارية والفن الأموي في إسبانيا وواحد من أكثر المعالم السياحية شهرةً في العالم.
قصر الحير الشرقي يقع في وسط بادية الشام بين تدمر والرصافة وبالتحديد إلى الشرق من تدمر بمسافة 100 كم وجنوبي الرصافة بحوالى 60 كم تقريباً وشرق مدينة السخنة بحوالى 10 كم، يضم الموقع عدة منشآت عمرانية يعود تاريخ بناء معظمها إلى العصر الأموي وتحديداً في زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك أي بالفترة الممتدة بين (690 – 743) م وهو قصر غاية في الجمال والأبهة، وصفه الباحث ألبرت غابرييل بأنه يشبه المدينة المتمددة في الصحراء إذ يقع القصر ضمن نطاق مدينة أثرية كاملة كانت في يوم من الأيام منتجعاً للخليفة في العهد الأموي.
استخدم في بناء قصر الحير الشرقي الحجر الكلسي ويتكون عموماً من قصرين: قصر كبير وقصر صغير ويتألف القصر الكبير من طابقين وله بوابة رئيسية ضخمة محاطة ببرجين دائريين وثلاث بوابات وأبراج في محيط القصر وأبراجه مستديرة، وقد بني القصر على شكل مربع تقريباً تتوسطه فسحة سماوية مركزية كبيرة تحيط بها القاعات والغرف المزينة بنقوش وزخارف كثيرة يبلغ طول ضلع القصر نحو 170 م ويمتد على مساحة نحو 11200م2 تقريباً تحيط به البساتين وهو أقرب ما يكون إلى قرية صغيرة مسوّرة كانت مسكونة في العصر الأموي واستمرت الحياة فيها حتى العهد الأيوبي، يحيط بهذه القرية سور يضم أربعة أبواب وقد دعم السور بالأبراج نصف الدائرية الموزعة بمعدل أربعة أبراج في الزوايا، وستة في كل جدار عدا الواجهة الرئيسية التي تقع إلى الجهة الجنوبية من القصر إذ يتوسطها برجان كلاهما نصف دائري، قطر الواحد منها أربعة أمتار، ويقوم البرجان نصف الدائريين في الواجهة الرئيسية ويحيطان بالباب لحماية المدخل الرئيس الذي يؤدي إلى دهليز واسع يفصل بين الخارج والفسحة السماوية المكشوفة المحاطة برواق من طابقين محمول على دعائم وأقواس حجرية، وتشير التنقيبات إلى وجود طابقين سكنيين يتشابهان بتقسيمهما الداخلي وتضم هذه القرية الصغيرة عدداً من البيوت الخاصة بالموظفين ومسجداً ومباني خدمية ومعملاً لصناعة الزجاج ومخازن ومطابخ ومعاصر زيتون وتمتد فيها شوارع تتلاقى في وسطها، وتحوي القرية إضافة إلى ذلك جميع الخدمات وخزانات ماء وتظهر آثار حمّام كانت المياه تجر إليه وإلى البساتين والمزارع المحيطة بالقصر من قناة مدت من نبع الكوم الذي يقع في الشمال الغربي من القصر وعلى مسافة نحو 30 كم منه، وكانت القناة إضافة إلى ذلك تنقل المياه إلى داخل القصر وباقي مناطق المدينة، ويذكر بعض الباحثين أن القصر الكبير قد أعيد بناؤه في القرن العاشر الميلادي أي في زمن الدولة العباسية حيث أكدت التنقيبات الأثرية التي تمت في موقع القصر أن بعض التشييدات وأعمال الترميم التي تم تنفيذها في الفترة العباسية أدت إلى تحويل القصر وما حوله إلى مدينة متكاملة وأدى ذلك إلى تغيير وظيفة الموقع من استراحة صحراوية للخليفة الأموي إلى مدينة ذات طابع تجاري مهم، ويبلغ ارتفاع السور بما فيه حاجز السقف عند وجوده نحو 15 م، ويتميز القصر بمدخله الذي تعلوه قوس حجرية علوية ذات زخارف وسقاطة دفاع بارزة على شكل شرفة مع فتحات سفلية لصب الزيت المغلي على المهاجمين.
أما القصر الصغير فيقع إلى جانب القصر الكبير وهو على شكل رباعي غير منتظم طول ضلعه نحو 70 م وسطياً واجهاته محفوظة ولاسيما الواجهة الجنوبية والشرقية وعلى جانبي بابه برجان كلاهما نصف أسطواني وفي كل زاوية برج مستدير وهو على شاكلة القصور الأموية الأخرى المنتشرة في بلاد الشام، يتميز القصر باحتوائه على أربعة مداخل متقابلة عرضها 3 م وتعلوها عوارض أفقية معشقة وقوس حجرية ذات تشكيل مدبب وقلب مفصص إضافة إلى وجود سقاطات دفاعية بارزة على شكل شرفة مع فتحات سفلية لإحكام إغلاق الباب عند التعرض للهجوم ولصب الزيت المغلي على المهاجمين، ويفصل بين القصرين مئذنة مربعة الشكل بارتفاع عشرة أمتار وهي ذات مدخل جنوبي ودرج حلزوني دائري.
بنيت أسوار القصرين من الحجر المنحوت والآجر ومدعمة بأبراج نصف دائرية وهي تشهد على مدى اهتمام الخليفة هشام بن عبد الملك بالعمارة وتشييد القصور وميله للفنون كما كان الخليفة يحب الشعر والآداب، لذلك فقد كان للشعر العربي حضوره المميز في تلك القصور حيث كان يؤمّ تلك القصور العديد من الشعراء الذين كان لهم لمستهم الإبداعية الخاصة وأثّروا بشكل كبير في مسار الشعر العربي برمّته أمثال الفرزدق وجرير وغيرهم والذين كانوا يلقون قصائدهم أمام الخليفة ويمجدون خصاله ويمتدحون سجاياه والذي كان يجود عليهم من كرمه ويغدق عليهم من هداياه السخيّة.
مستشار وزير السياحة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن