إحدى الكبائر في حق قضيتنا المقدسة تلك الأكذوبة التي أعطوها عنواناً براقاً مغرياً، ينضح بالخداع الذي برعوا فيه، والتضليل الذي يبلغ حدَّ غسيل الأدمغة، الغاية من ورائها، كما كانت دائماً، تمرير مخططات على قدر هائل من الخطورة لما سموه «عملية السلام» زوراً وبهتاناً وتلفيقاً. غير أن الإعلام بوسائله وأدواته الحديثة يمنحها ذلك البريق الخادع، كما أسلفنا، لكي تبدو وكأنها المصلحة المتوخاة المنشودة لهذا الشعب المنكوب في زعاماته قبل أي شيء أو أحد آخر. ليقل لنا هؤلاء على أي أساس يبنى هذا السلام؟ وبأي حق يفرطون بما اغتصبه العدو من بلادنا وثرواتنا وحقوقنا بل حياتنا نفسها لكي يمنحوه فرصة لمسالمته، فضلاً عن وجود يشرِّعونه للبقاء والعيش وحق الوجود والمعايشة بسلام مستديم في ديارنا؟
عدو من هذا القبيل، وبعد كل ما حل بنا على أيدي عصاباته، على مدى قرن من الزمان منذ بلفور وسايكس وبيكو وكامبل بنرمان، من قتل وهتك وتدمير، ليس للأرض وحدها، وإنما لكرامة الإنسان الفلسطيني نفسه وسائر شؤون حياته.
إن مجرد الحديث عن سلام مع ذلك العدو، الغني عن التعريف والتوصيف، هو إهدار لمسألة التحرير من أساسها، فضلاً عن الاعتراف له بكل ما اغتصب، والعفو عن كل ما اقترف وارتكب.
الذي نراه، ويراه كل منصف، غيور على الوطن، هو أن لا بديل عن التحرير سوى المقاومة والمقاومة حتى النهاية، فهذا الوجود المصطنع لابد من اجتثاثه لكي يعود الحق إلى نصابه، طال الزمان أم قصر.
لا نقول هذا لأننا نكره السلام، وإنما نقوله لحبنا الشديد وحاجتنا الأشد للسلام، ولكن مع من؟ هل سلامهم أكثر من أكذوبة محبوكة متقنة استخدمت لزمن طويل بغية استغلال الظروف والوقت من جانب العدو لمصلحته، ولتنفيذ مخططاته لترسيخ وجوده على أرضنا، واستكمال انتشاره وتوسعه بمستوطناته في كل مكان منها توطئة لجلب المزيد من الغرباء قطعان الدخلاء إليها؟
مبتكر هذه اللعبة المسماة بالسلام، هو ذلك اليهودي الألماني الأميركي وزير خارجية أميركا سابقاً هنري كيسنجر في عهد رئيسها ريتشارد نيكسون، استطاع هذا الرجل بدهائه الذي عرف عنه، في مواجهة غباء بعض من تعامل معهم من المتزعمين والقادة العرب وإقناعهم أو قل جرّهم إلى السير في طريق التفاوض والتنازل عن الحقوق تحت مسمى «السلام».
وعدهم كيسنجر بأشياء كثيرة، على رأسها الحكم والجاه والسلطان بما يكفل لهم البقاء على كراسيهم ومناصبهم مدى الحياة، ناهيك عن إطلاق أيديهم في رقاب شعوبهم، وتمكينهم من جني ثروات بلادهم حيث يتحكمون فيها حسبما يشاؤون، وكأنها ممتلكات خاصة لهم.
هكذا استطاع كيسنجر أن يخرج من لدن هؤلاء المتزعمين الذين ابتليت بهم أمتنا العربية ومنها الفلسطينية بطبيعة الحال باتفاقيات «كامب ديفيد، وادي عربة، أوسلو»، ومثلها أو أكثر منها، جرت ترتيباتها وصياغاتها في الخفاء، بملحقات سرية، لم تعرف مضامينها حتى اليوم، إذ بقيت وقفاً على من وضعوا بصماتهم عليها، وعلى واضعيها في الطرف الآخر. ترى ما الذي تخفيه تلك الملحقات ولمصلحة من كان إخفاؤها؟
لقد كان الهدف من اتفاقية كامب ديفيد عزل مصر العربية وتحييدها عن الصراع مع العدو، وهو ما حدث بالفعل، وما أسفرت نتائجه عن وبالٍ شهدناه بعد ذلك، نعيشه حتى يومنا هذا في دنيا العرب.
وها نحن مازلنا نسمع، على الرغم من كل ما جرى، في كل يوم كلاماً عن السلام حيث أصبحت هذه الأسطوانة المشروخة تثير السأم، إن لم يكن الغضب والعجب.
يحدث هذا على الرغم مما يتردد دائماً على لسان صاحب وظيفة كبير مفاوضي السلام مع الصهاينة من أن السلام أصبح قضية ميتة. ولكنه على الرغم من ذلك يبادر إلى القول إثر كل حادث قتل لفلسطيني مثلاً، أو إقامة مستوطنة جديدة، بأن ذلك من شأنه أن يعرقل عملية السلام، ولا تفوتنا هنا الإشارة أيضاً إلى أن الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى، وصف عملية السلام بالميتة التي شبعت موتاً.
ترى عن أي سلام إذاً يتحدثون؟ ألم يكفهم كل هذا الزمن من المفاوضات منذ أوسلو، والعبارات المقيتة نفسها تتردد صباح مساء! حتى مصارع شبابنا في مسلسل القتل اليومي هناك لا رد عليها سوى أنها تعرقل عملية السلام!
ألا يحق لنا بعد هذا أن نتوجه لأولئك الزعماء الذين منَّ اللـه بهم علينا، وجعلوا من أنفسهم أوصياء على مصيرنا شعباً وقضية، بأسئلة قليلة هي من البداهة بمكان مثل:
*ما الذي مازلتم تأملونه عن طريق المفاوضات مع العدو بعد هذه التجربة المهزلة منذ أوسلو العتيدة؟ على ماذا تراهنون يا سادة؟
*هل مفاوضات السلام سوف تحرر لكم الأرض من النهر إلى البحر؟ أم إنكم سوف تسلِّمون للعدو بالواقع القائم وجوده على أرضنا إلى يوم الدين، مكتفين بالفتات الذي قد يتكرم به عليكم في حدود بضعة كيلومترات في الضفة وفي غزة تتسع لكراسي حكام هنا وهناك يقتعدونها ما بقي لهم من عمر؟ ولتسموها ما شئتم دولة أو سلطة أو محافظة!
*هل السلام المنشود هو قبولكم ببقاء نصف شعب فلسطين مشرداً بعيداً عن وطنه تتقاسمه، ثم تذيبه المهاجر في مدن الغرب وربما الشرق أيضاً فلا عودة لأي فلسطيني ولا ما يحزنون؟
*هل السلام المحلوم به تقرونه وتوافقون عليه، هو تهويد فلسطين برمتها وإخلاؤها ممن بقي على أرضها عام 1948، لكي تغدو فلسطين اليهودية نقية خالية من الشوائب على أرضها كما يقول ساسة العدو وفي مقدمتهم كبار مجرميهم بنيامين نتنياهو وأيهود باراك وأفيغدور ليبرمان؟
هذه التساؤلات إن هي إلا غيض من فيض، نتوجه بها إلى دعاة السلام هناك فهل من مجيب؟ أم تراه لم يعد في الإمكان أبدع مما كان وكفى اللـه المؤمنين، وغير المؤمنين القتال؟
كلمة أخيرة يقولها الشعب الفلسطيني برمته في داخل الوطن وخارجه:
إن مجرد قبول فكرة التفاوض مع العدو لا تعني سوى الإقرار والتسليم بوجوده الراهن القائم المسمى إسرائيل على أرضنا كأمر واقع لا مفر منه.
وماذا إذاً بعد ذلك، عن مبدأ التحرير لكل فلسطيننا من البحر إلى النهر؟