من المؤكد أن السلوكيات المتناقضة في تفاصيل الصراع بين الفاعلين المؤثرين في المشهد السوري وجزئياته، ستصل في لحظة معينة إلى نقطة اللاعودة في حسم مواقفها وتوجهاتها، وسيكون أمامها خياران لا ثالث لهما: إما اتخاذ القرار والتوجه نحو إبقاء حالة الاشتباك قائمة للحفاظ على ما حققته من مصالح بما في ذلك الاشتباك المباشر الجزئي والمنضبط، لعدم القدرة على تحمل عواقب تداعيات توسعه، أو التسوية القائمة على فرض الأمر الواقع عبر التفرد بامتلاك زمام المبادرة أو التسوية القائمة على المراضاة الجمعية ومراعاة المصالح الإقليمية.
وحتى الوصول إلى هذه المرحلة أو اللحظة الحاسمة ستسعى جميع الأطراف نحو تحصيل أكبر قدر ممكن من النفوذ أو الحفاظ على ما حققته، سواء من خلال العمليات العسكرية أم الضغط السياسي أو محاولة تغيير الاصطفافات والاحتواء كما يحصل اليوم في التجاذب الأميركي التركي حول المنطقة الشمالية الشرقية، وضمن هذا الإطار بات من المسلم به أن هناك علاقة تأثير وتأثر بين شطري الشمال السوري من حيث تطور الأحداث ومجرياتها، فما يجري بمدينة إدلب من عمليات عسكرية سيرخي بظلاله وتداعياته على الشرق السوري، كما أن طبيعة ومخرجات النتائج في التجاذب الأميركي التركي سيكون لها تأثير على مدينة إدلب، ومن ثم فإنه لا يمكن تجزئة المشهد السوري أو التعامل معه من الجانب السياسي وتغيب التطورات العسكرية، أو معالجة إحدى ملفاته من دون مراعاة الآخر أو من دون تأثره بالتطورات التي يشهدها الأول، وهذا من شأنه المزيد من التعقيد والتداخل والتشابك من جانب، ومن جانب آخر يؤدي إلى زيادة دور الفاعلين الأصليين مع تراجع أدوات التأثير.
على الرغم من أن الإعلان عن التوصل لاتفاق بين واشنطن وأنقرة حول إقامة أو إنشاء ما يسمى «المنطقة الآمنة» يشي بنوع من تقارب وجهات النظر بين إدارتي البلدين، إلا أن التوصل إليه قد يكون شكلياً في هذه المرحلة ليكون مجرد تكتيك تسعى واشنطن من خلاله إلى إعادة هندسة تأثيرها في الميدان السوري بطرق قديمة جديدة وعبر حلفائها، بهدف سد الطريق أمام روسيا لامتلاك زمام المبادرة في الوصول للحل السياسي واحتواء النفوذ الإيراني واستكمال مسار حصار سورية وحرمانها من استثمار ثرواتها في إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين وتأخير الوصول إلى الحل السياسي إن لم يتناسب مع الأجندة الأميركية، ولذلك فإن هذا الاتفاق تم الإعلان عنه على الرغم من أنه يتضمن مساحة واسعة من المصالح المتناقضة في الغايات بين أنقرة وواشنطن، وهنا لابد من ذكر الملاحظات التالية حول الإعلان عن التوصل لهذا الاتفاق:
1- هناك اتفاق تام وكامل بين الإدارتين الأميركية والتركية على إقامة المنطقة الآمنة، ولكن كلٌ حسب مصالحه وأهدافه وغاياته، فواشنطن تبتغي من ذلك:
– إعادة احتواء تركيا والحفاظ على وجودها كحليف إستراتيجي لواشنطن، وفق التوصيات التي تضمنتها نصائح النخبة الأميركية في تحديد معالم السياسة الخارجية وإستراتيجيتها، فضلاً عن دورها كعضو في الناتو بما تمثله من امتداد مهم وتموضعها الجيوسياسي، كما أن هذا الاحتواء هدفه منع أي تصادم إثر أي عمل عسكري منفرد في الشمال السوري من شأنه أن يؤدي إلى مواجهة بغض النظر عن شكلها بين جنود الجيشين وخاصة بعد أن لمست واشنطن جدية أنقرة في شنها عدواناً ثالثاً على الأراضي السورية.
– البحث عن آلية أو منظومة عسكرية وأمنية تحقق واشنطن من خلالها التوازن في العلاقة والأدوار بين حلفائها الخصوم، «قسد» وتركيا، لتترجمها في حال نجاحها إلى تنسيق وتعاون سياسي، وهذا ما برز في الرؤية الأميركية لتقسيم المنطقة الآمنة وفق تصور المبعوث الأميركي إلى سورية جيمس جيفري إلى ثلاث مناطق على الخريطة الجغرافية أو ما يمكن الإطلاق عليه «الخرائط الملونة»، تؤدي بها كل من أميركا وتركيا و«قسد» أدواراً متكاملة على الشكل التالي: «شريط أمني بعمق 5 كم تشترك بها الدوريات الأميركية التركية في إدارتها وحمايتها، يليها شريط منزوع السلاح أو شريط الفصل أو الممر الآمن بعمق 9كم، ومنطقة ثالثة محاذية جنوباً تتمركز بها ما يسمى الإدارة الذاتية».
من خلال هذه الرؤية أو الطرح فإن واشنطن تهدف للمحافظة على التوازن وإيجاد نقطة الالتقاء بين حلفائها بالدرجة الأولى، ومن ثم في حال ترجمته ميدانياً سيؤدي ذلك وبشكل ديناميكي إلى إيجاد آلية تعاون أمنية وعسكرية ثلاثية وقد يكون توسيعاً لغرفة العمليات المشتركة في مرحلة لاحقة.
– توحيد الجهود لمنع الجيش العربي السوري من تحقيق المزيد من التقدم في مدينة إدلب في المنظور التكتيكي وشل مخرجات أستانا ومحوره على المستوى الإستراتيجي، فنجاح واشنطن بالتوصل لصيغة تنسيق وتعاون مشترك مع أنقرة حول شرق الفرات، قد يجعل اتجاه هذا التنسيق يمتد نحو فرض الضغط على الجيش العربي السوري في إدلب لوقف زحف الجيش العربي السوري أكثر، بل أيضاً استرداد ما تم تحريره وهذا سيكون له المزيد من ارتدادات سلبية على العلاقة بين دول أستانا، وهو الأمر الذي تبتغيه واشنطن، وبالتالي فإن احتواء الولايات المتحدة لتركيا يمثل ليس فقط رؤية إستراتيجية بل ما يمكن الإطلاق عليه «حاجة الضرورة» تفرضها أولويات الميدان في هذا التوقيت، لأن إخفاق هذا التنسيق والتعاون الأميركي التركي في منطقة شرق الفرات لن يصب في مصلحة واشنطن، لأنها ستفرض تنفيذ أولويات تركيا في توجيه الاهتمام بشرق الفرات ربما حتى على حساب مدينة إدلب، ومن هنا يمكن فهم الصمت الروسي الذي يراهن على استمرار الخلاف بين عاصمتي الناتو بل أيضاً تصاعده نتيجة تناقض مصالحهما، واستغلال ذلك ضمن هامش المناورة لإيجاد صيغة تعاون روسية تركية وربما إيرانية في شرق الفرات على غرار نظام أستانا، رغم ما أظهرته محادثات هذه المنظومة من هشاشة في التوافقات، إلا أن هدفها سيكون مؤقتاً ويتمثل في تحجيم الدور الأميركي أو إجباره على الانسحاب أو دفع حلفائه المحليين على تغير رهاناتهم باتجاه دمشق.
2- الطموح والحلم التركي في التوسع في الشمال السوري واستثمار ذلك على الصعيدين: الداخلي عبر إعادة الاصطفافات السياسية الداخلية بما يخدم توجه الرئيس التركي رجب أردوغان في الاستئثار بالسلطة تحت ذريعة حماية الأمن القومي التركي لإحداث حالة جذب بعض قوى المعارضة لصفه وخاصة تلك التي تتبنى إيديولوجية الحفاظ على القومية والهوية التركية، ومنع المزيد من تسرب وانشقاق أعضاء حزبه.
وهذا سيوحد الشارع التركي الذي قد يستثمره أردوغان لإجراء انتخابات مبكرة متوقعة في عام 2021 كخطوة استباقية قائمة على إنجاز خارجي يقطع به الطريق على توجهات المعارضة للفوز بانتخابات الرئاسة، وخاصة أن التقارب مع واشنطن قد يعيد بعض النمو للاقتصاد التركي فضلاً عن استمرار الاستثمار بملف اللاجئين في العلاقة مع أوروبا وإعادة تموضعهم في الشمال السوري بما يخفف حجم الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في الداخل التركي.
أما على الصعيد الخارجي فإن أردوغان الذي جاهر مراراً رغبته في تمزيق اتفاق لوزان 1923، فأنه يريد وصل الموصل بحلب عبر هذه المنطقة الآمنة التي ستكون بوابته لذلك.
3- الموقف الكردي وميليشات «قسد»، وهو ما سيمثل في حقيقة الأمر بيضة القبان من حيث احتمالية نجاح مشروع المنطقة الآمنة من عدمه، وخاصة أن الانجرار خلف الأميركي والابتعاد عن سياسة الحوار مع دمشق دفعا أنقرة إلى التذرع بذرائع توسعية تحت ما يسمى حماية الأمن القومي التركي.
وهذا الموقف، أي للقوى الكردية ولـ«قسد»، غالباً ما سيكون منقسماً على ذاته، وسيشهد أكثر بروز ثلاثة تيارات بين صفوفها:
الأول: المراهن حتى النهاية على الوعود الأميركية لتحقيق الانفصال والحماية وهذا التيار يستند على استمرار تدفق الدعم الأميركي لميليشات «قسد» بالأسلحة، وسيطرة الأخيرة على مواقع حيوية قد تهدد بتسليمها للحكومة السورية كآبار النفط والغاز فضلاً عن مخيم الهول ومحتجزي داعش الذين قد تطلقهم بما يهدد العناصر الأميركية والأمن القومي الأوروبي، ورسالة الزعيم الكردي عبدالله أوجلان المطالبة لهم بعدم الدخول في صراع مع تركيا.
أما التيار الثاني فأنه سيتضمن ميليشات مختلطة ما بين الكرد والقوميات الأخرى التي ستسارع إلى اللجوء أو الاستنجاد بالجانب الروسي لضمان محادثاتهم مع دمشق.
أما التيار الثالث فهو التيار الذي يمثل بعض العشائر العربية والقوى الكردية التي بدأت بطرق أبواب دمشق مجدداً.
بينما يبقى الفاعل المؤثر والأقوى في الميدان هو الجيش العربي السوري والقيادة السياسية، والتي تضع كامل السيناريوهات في قراءتها وتوجهاتها، وما نشهده اليوم من عمليات عسكرية في إدلب بما في ذلك استهداف الرتل العسكري التركي، يشير إلى بعدين:
الأول تطبيق اتفاق سوتشي بالنار ولاسيما عبر وضع المجاميع الإرهابية والدول الداعمة لها بين فكي كماشة عسكرياً من دون نسف الحل السياسي الذي سيبقى مطروحاً مع أي إنجاز يحقق ميدانياً، مع إبقاء بوابة الحوار مع ميليشيات «قسد» مفتوحة دون إغفال دعم المقاومة الشعبية التي ستنشأ.