كما جرَت العادة في غيرِها من المناطق، ومنذُ بدأَ شُجعان هذا العصر عمليات تحريرِ ريفي حماة وإدلب من رجسِ الجماعات الإرهابية، بدأ توارد الصور التي تعبِّر عن الواقع الذي كانَت تعيشهُ تلكَ المناطق وقد اجتاحتها قطعان المتأسلمين بهدفِ إعادتها قروناً إلى الخلف، من بين تلك الصور هي الشعارات التي كانت ترفَعها تلك الجماعات بهدفِ اللعب على عقولِ من كانوا رهينةً لديها من قبيل: «الديمقراطية حرام»، «حجابي سرّ عفتي»، «الأركيلة حرام».
هذا الشعار الأخير استوقفني كما استوقفتني يوماً الكثير من التصريحات الرسمية التي توحي لنا بأن زيادة الرواتب والأجور لَربما رِجسٌ من عمل الشيطان علينا اجتنابه، وبمعنى آخر:
لو أُتيح لي يوماً ما أن أُصدرَ فتوى تحريمٍ وتحليلٍ لخرجتُ بفتوى تحرِّم الأركيلة ولو كنتُ من غيرِ المؤهلين لإصدار فتوى كهذه، فحالي لا يختلف كثيراً عن حالِ من يتعاطونَ بالفتاوى عن جهلٍ وما أكثرهم!
أعترف أنني لستُ من هواةِ الأركيلة، لكني لا أتحدَث هُنا من منطلقٍ شَخصي بل من الحالة التي وصلَ إليها ارتباط السوريين بالأركيلة، ما يجعلنا نتساءل عن طريقةِ مراكز الأبحاث الاقتصادية العالمية عند التعاطي بالتحليل مع ظاهرةٍ ما:
ما الأرقام التقريبية لحجمِ الاستهلاكِ اليومي للمواطن السوري من المعسَّل والمياه و«الصحة»؟
بشكلٍ عام إذا كانت مراكز الدراسات العالمية تتحدث في إحصائياتها عن حصةِ المواطن من المياه، والكهرباء أو حتى الهواء فإنه من الضروري لنا تحديدَ حصة المواطن من الفحم الخاص بالأرجيلة، لا لشيءٍ لكن لكي تفرَح مافيات تقطيعِ وتفحيم الغابات، عسانا نبرِّر باحصائياتٍ موزونة جرائمهم بحق الطبيعة، فهل تصدّقون أن رُخَص التفحيم التي تُعطى حسب المحسوبيات باتت عملياً جسرَ عبورٍ لتلك المافيات استخدمتها ذريعة للوصول إلى ما وصلت إليه من تجاوزاتٍ وتعديات؟ ثمّ إلا تستحق ثقافة الأركيلة أن يجري تدريسها في المناهج الرسمية؟ تحديداً أن ما من حسيبٍ ولا رقيبٍ على معدل العمر الأدنى الذي يُسمح للمقاهي بتقديمها للمراهقين وصغار السن، ماذا لو أضفنا مادة منهاجية جديدة بعنوان: كامل التسَاهيل في علم الأراجيل!
لكن في إطار آخر فإن ثقافة الأركيلة ساهمَت إلى حدًّ بعيدٍ برفعِ المستوى الثقافي لدى المواطنين، ولعلها نجحت في ذلك أكثر من وزاراتٍ وهيئاتٍ كاملة تُوكل إليها عملية حساسة كهذه، لأنه ما اجتمع سوريَّون مع أركيلةٍ إلا وكان النقاش ثالثهما، ولعل أخطرَ أنواع النقاش هو ذاك الذي يُوازن بين خطر الأركيلة أو التدخين على الصحة، لدرجةٍ تشعرُ فيها من عمق النقاش المدعوم بالحجج والثوابت العلمية والنظريات الجيواقتصادية التي يحاول فيها كل طرفٍ إثبات «سلميةَ تَبغِه» بأنه صراعٌ لا يشبهُ إلا ذاك الصراع بين وجهة نظرٍ حكومية تقول إن الحل لمشاكل المواطن الاقتصادية برفع الرواتب، فتخرج نظرية حكومية مضادة لتقول إن الحل بإنزال سعر الدولار، وفي النتيجة ينتهي النقاش في كل هذه المواضيع والنقاشات الحساسة كما ينتهي دخان التبغ متلاشياً في الهواء، بينما تترسب مضاره داخل الرئتين.
في الخلاصة: نحنُ نعيش زمنَ الشعارات البرَّاقة، فشعار «الديمقراطية صنم» قد لا يختلِف عن شعار «ازرع ولا تقطع» جميعها شعارات هدفهما عملياً اللعب بالعقول للوصول إلى المبتغى، بعضها حُكماً بِدعة وكل بدعةٍ ضلال، لكن جلّها طريقة معسولة لتبرير ما يجري من مهازِل، وهل من مهزلَةٍ أسوأَ من هروبِ المواطن في همومهِ من سطوةِ رؤوس التنظير الاقتصادي والحكومي وتجار الأزمات، باتجاهِ سطوةِ رؤوس الأراكيل الكافرة.. والعياذ بالله.