في السادس والعشرين من آذار 2015 وقف عادل الجبير الذي كان يشغل منصب السفير السعودي في واشنطن، ليعلن عن بدء «عاصفة الحزم» التي قال إنها تأتي في سياق حماية الشرعية في اليمن، كان المنبر الذي جرى الإعلان منه إشارة لا تغفل عنها عين أو سمع، وهي تؤكد وجود ضوء أخضر أميركي لما جرى بعد هذا التاريخ المشار إليه.
كان هذا في المعلن، لكن المسكوت عنه، يمكن لحظه في تقرير «معهد استوكهولم للأبحاث والدراسات» قبيل أشهر من هذا التاريخ، وفيه جاء أن ميزان القوى القائم ما بين السعودية وإيران يبدو مائعاً الآن، بمعنى أن هناك حالة هي أقرب إلى التعادل بين الكفتين سابقتي الذكر، وإذا ما كان الأمر كذلك ما بين طهران والرياض، فما هو الحال عليه إذا ما بين الرياض وصنعاء التي كان قد سيطر عليها «أنصار الله» في أيلول من العام 2014؟
لا بد من الإشارة هنا إلى أن المعهد المذكور هو أحد معهدين رصينين في تقييم الصراعات الدولية، وهو يحظى بمصداقية كبيرة تكاد تكون معتمدة لدى دوائر القرار العالمية بنسبة قد تصل إلى 100 بالمئة، إلا أن تلك المصداقية نفسها هي التي يمكن استثمارها لمرات نادرة لتمرير معلومة غير صحيحة على نمط دس السم في العسل كتلك الواردة عن ميزان القوى القائم بين طهران والرياض، لتحقيق المكاسب أو المرامي المحددة، وهذي الأخيرة إن لم تتحقق في السياق الذي قيلت لأجله فمن المؤكد أن تحقق المرجو منها في سياقات ليست بعيدة عن المسار الأساسي.
مع الإعلان عن بدء «عاصفة الحزم» كان هناك الإعلان عن تحالف ضم 10 دول إقليمية يقف من ورائها حزام دولي داعم، كان من أبرزها مصر والباكستان والسودان، والتقديرات كانت تقول إن العمل العسكري لن يستمر إلا لبضعة أسابيع ستكون كافية لقلب الأوضاع في صنعاء، وعندما لم يحدث ما كان مقرراً جاء القرار بالانتقال بعد ثلاثة أسابيع على بدء العمليات إلى «إعادة الأمل» التي تعني في ضمنيتها إيحاءً بأن الأهداف أضحت واقعاً على الأرض، على الرغم من أن الوقائع كانت تقول عكس ذلك تماما، وفي الغضون كانت مصر قد أحجمت عن المشاركة في المجهود العسكري، ومثلها فعلت باكستان على الرغم من أن الأخيرة كان لها 65 جندياً على الأراضي السعودية بحسب «التايمز البريطانية»، وفي خلال الشهور الـ41 التي قضاها العدوان على اليمن الذي كانت أدواته تنحصر في الإمارات والسودان وفي القوات والفصائل الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي التي يشكل «المجلس الانتقالي الجنوبي» قوامها الأهم، أدخلت حماوة الخليج الأخيرة التي استحضرتها العقوبات الأميركية على إيران يوم 3 أيار الماضي، الأزمة اليمنية في تصعيد غير مسبوق، والمؤكد هو أن «أنصار الله» قد ذهبوا إلى الاستثمار بأقصى الحدود في تلك اللحظة، وذاك أمر لا يضير الحركة أو يحرجها، إذ تقول التجارب إن ما من حركة تحرر إلا وعمدت إلى تفعيل الظروف المحيطة بها في السياق الذي تجد فيه أنه يحقق أهدافها أو مراميها الكبرى، الأمر الذي أدى إلى نقل المعارك المؤثرة إلى الداخل السعودي حتى وصل ذلك العمق مؤخراً إلى حقل «الشيبة» النفطي السعودي الذي استهدف يوم السبت الماضي بصاروخ بالستي بعيد المدى، فالحقل الذي يحوي مخزونا يصل إلى مليار برميل من النفط يقع على بعد 1100 كم عن الحدود اليمنية السعودية، الأمر الذي شكل تطوراً نوعياً ذا دلالات خطرة.
لم تكن الأحداث التي شهدها شهر آب اليمني بعيدة عن حالة الحماوة السابقة، وهي على كل حال كانت تنذر بالكثير من التشظيات، وحادثة اغتيال منير اليافعي الملقب «بأبي اليمامة» مطلع هذا الشهر وما جرى إبان تشييعه في السابع منه، كان يشي أيضاً بالكثير من هشاشة التحالفات التي تمظهرت في سرعة تحول الأطراف من وضعية الحليف إلى وضعية الخصم، وتلك كانت بالدرجة الأولى السبب الرئيسي في سقوط «قصر المعاشيق» الرئاسي بعد أربعة أيام فقط على بدء المعارك بين قوات المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات المنضوية تحت راية عبد ربه منصور هادي.
بالتأكيد كان للفعل السابق خلفيات أخرى من أبرزها حالة الانكفاء السعودية في دعم قوات هادي وعدم ذهاب الرياض إلى مواجهة مع أبو ظبي ظهرت عبر إحجام سلاح الجو في دعم تلك القوات، إلا أن قدرة هذا الأخير كانت ستكون ضعيفة تجاه حرب شوارع ستكون تكلفتها البشرية أكبر مما يمكن احتماله بالنسبة للرياض التي تعيش اليوم وضعاً دولياً حرجاً في هذا السياق.
ضيق الخيارات دفع في لحظة صعبة إلى توافق سعودي إماراتي سريع يمكن اختصاره بالقول إن كلا الاثنين قرر الانتقال إلى « الخطة ب» التي تقضي بالذهاب إلى شرذمة القوى اليمنية المشرذمة أصلاً، ومن ثم العمل على الإمساك بالمزيد من الخيوط لإدارة الصراع من الخارج مما يخفض الكثير من التكاليف على مختلف أنواعها.
مهما تكن التطورات التي سيشهدها اليمن بعد سقوط العاصمة الثانية المسماة بـ«المؤقتة» قد تكون بداية للعودة إلى ما قبل العام 1994 الذي شهد توحد شطري اليمن الشمالي والجنوبي، فإن السعودية اليوم أمام حالة انكشاف أمني وسياسي وعسكري وأخلاقي، والمؤكد اليوم أن مشروع «الأقاليم الستة» الذي خيضت على أساسه حرب «عاصفة الحزم» قد انتهى في الذهنية الحاكمة في الرياض، والحكمة الآن تقول: إن التفكير في إنشاء عاصمة ثالثة مؤقتة سيكون أمراً خاطئاً ورهاناً خاسراً حتى قبل أن يبدأ.