تقوم فكرة الصالونات عموماً على أن يجتمع الشعراء والأدباء ورجال الفكر والمغنون أسبوعياً أو شهرياً في منزل أديب أو شاعر ليعرض كل منهم ما لديه من جديد، ويستمع لآراء الآخرين ويناقش معهم مختلف الأمور المشتركة بينهم.
غالبا ما كانت تدير المنتدى عند العرب القدماء امرأة من أرقى طبقات المجتمع.
من المرجح أن أقدم صالون أدبي يرجع إلى القرن الأول للهجرة اسمه صالون «عمرة»، وهي امرأة ذات رأي حكيم وذوق سليم. كما عرف المجتمع العربي الصالونات الأدبية بمعناها الحقيقي قبل أن يعرفها الغرب بقرون عديدة، وذلك في القرن الثامن.
لم تكن الصالونات الأدبية ذكورية البتة، وبنظرة سريعة على أشهرها عبر التاريخ، يلفت الانتباه إلى إطلالة أنثوية باذخة الجمال والحضور، إذ إن معظمها أسسته نساء تمتعن بقدر وافر من التأثير في الفضاء العربي، وبذلك أكدن الفعل النسائي التغييري الثقافي، حيث صارت صالوناتهن منارة وعي للمفاهيم المعرفية والتنويرية العميقة، وتمتد قائمة الصالونات الأدبية طويلةً وثريةً.
«ملهمة ابن زيدون»
اذا انتقلنا إلى «زمان الأندلس» فإن الباحثين يتفقون على اعتبار صالون «الأميرة الشاعرة» ولادة بنت المستكفي، التي توفيت عام 1078، أهم الصالونات الأدبية، فقد كان لها مجلس مشهود في قرطبة يحضره أهل الأدب ووجهاء القوم، وكانت تنظم الشعر وتنافس شعراء عصرها، والنساء كن يفدن إلى صالونها ليتعلمن فنون القراءة والكتابة، عرفها التاريخ بأنها مصدر إلهام «ابن زيدون» بأرقى وأرق وأخلد أشعاره، ويعتقد المؤرخ الفرنسي «غوستاف لوبون» أن العرب الأندلسيين هم من قدموا فكرة «الصالونات الأدبية النسائية» لفرنسا في القرن الثاني عشر.
«نازلي ولبيبة»
مع بداية القرن التاسع عشر، وداخل «فيلا هنري» خلف «قصر عابدين»، كان يتردد مشاهير السياسة والمجتمع آنذاك إلى أول صالون ثقافي أسسته امرأة، وهي الأميرة نازلي فاضل ابنة الأمير مصطفى بهجت شقيق الخديوي إسماعيل، حيث كان يرتاده أهل السياسة والإعلام، أمثال الشيخ محمد عبده، سعد زغلول، قاسم أمين، ولي الدين يكن، وآخرين. ومن الصالونات التي عرفت في مصر أيضا، صالون لبيبة هاشم، صاحبة مجلة «الفتاة»، وكان من روادها الشيخ علي يوسف رائد الصحافة في عصره، كذلك عرف صالون زينب صدقي، الذي كان يطلق عليه صالون«شكسبير الزمالك»، وكانت هذه الصالونات جميعها تناقش المناظرة والشعر والغناء والمحادثة والمواضيع المتشابكة، مثل دور المرأة وعلاقتها بالرجل.
«مي زيادة»
في مصر، حظي صالون الأديبة اللبنانية مي زيادة «1886-١٩٤١»، بشهرة واسعة بين الصالونات الأدبية العربية على الإطلاق، إذ كان يستقبل مساء كل ثلاثاء في القاهرة ولمدة ربع قرن، إعلام الثقافة العربية، أمثال الشاعر خليل مطران، أحمد زكي باشا، عباس محمود العقاد، طه حسين.
تميز صالون «مي زيادة» بأنه كان مفتوحا للجميع ديمقراطيا، وحافلا بالعزف والغناء والنقاشات والقراءات، كل هذا باللغات العربية والفرنسية والانجليزية.
«صالونات دمشق»
من دمشق أطلت مريانا مراش، رائدة من رائدات سورية «1848-١٩١٩»، حيث عرف عن صالونها أنه من أوائل الصالونات الأدبية من نوعه في الشرق العربي بمفهومه الحديث، وعلى الرغم من اختناق الحياة الاجتماعية أيام الحكم العثماني، إلا أنها سبقت بصالونها هذا عديدات منهن مي زيادة، أما رواد الصالون فكانوا من أدباء حلب ومثقفيها آنذاك، أمثال رزق اللـه حسون، الأديب قسطاكي حمصي، المفكر التربوي عبد الرحمن الكواكبي، هؤلاء المثقفون كانوا يجتمعون في صالونها لتبادل الآراء النقدية، واستعراض آخر نتاجاتهم الفكرية، ومطالعة كتب الأدب والتراث، كذلك لا تنسى أزقة دمشق العتيقة صوت ماري عجمي، وهو يصدح داخل بيتها في حي باب توما، بمساجلات فكرية وأدبية متنوعة، ففي صالونها الذي تستقبل فيه الأدباء والمثقفين يومي السبت والثلاثاء من كل أسبوع كانت تطرح المواضيع ابتداء بالسياسية مرورا بالثقافية، وانتهاء بقضايا الأدب.
«صالون حبوبة حداد»
وفي بيروت كان لحبوبة حداد صالونها الأدبي، وقد استمر من عام «1897-1957»، ذلك الصالون الذي أمته شلة من الأدباء والأديبات، معبرين في جلساته واجتماعاته عن خلجاتهم الأدبية والفكرية ومن بينهم: أمين تقي الدين، والشاعر شبلي الملاط، أحد أبرز الشعراء العرب في النصف الأول من القرن العشرين، فكان الصالون مختلطا يجمع الأدباء والأديبات، وقد جمع صالونها من كل الانتماءات الدينية والسياسية والاجتماعية، تغمر أجواءه الشؤون الأدبية والشجون الفكرية العامة، تسع سنوات كانت ديمومة هذا الصالون وجلساته الأدبية التي لا تنسى.
«صالون صبيحة»
في دارها المطلة على جبلة، كانت صبيحة الشيخ داوود «1912-١٩٧٥» أول فتاة عراقية أكملت دراستها الجامعية في كلية الحقوق، تعقد صالونها الأدبي كل أسبوع، بحضور رجال ونساء الصحافة والأدب والسلك الدبلوماسي، وبعدها أقامت في بيتها مجلسين أحدهما يرتاده أطباء ومفكرون وعلماء في القانون واللغة، أما المجلس الثاني فكان مكرسا للأدب والمثقفين، حتى إن أحد المؤرخين وصف مجلسها ذاك بأنه يضاهي «صالون مي زيادة». كان واضحاً تأثر صبيحة بشخصية والدها الشيخ داود، وزير الأوقاف في عهد المملكة العراقية، وبأفكاره التنويرية التي تدعو لتحرر وانعتاق المرأة كشرط لتقدم المجتمع العراقي.
وقد سبقهم في العصر الأموي «سكينة بنت الحسين» رضي اللـه عنها، باعتبارها السيدة الأولى التي تفتح بيتها لاستقبال ضيوفها من الرجال والنساء على حد سواء، لإلقاء الشعر وسماع الموسيقا وتقديم النقد الأدبي، فيجلسون بحيث تراهم ولا يرونها، ومن جلاسها رواة الشعر الثلاثة، نصيب وجميل والأحوص، كما قصدها الفرزدق، وكان الناس يعدونها الناقدة الأولى لعصرها، وذلك لرؤيتها النقدية البصيرة.