قضايا وآراء

من سيربح في «الخداع الإستراتيجي»؟

| عبد المنعم علي عيسى

يمكن القول: إن يوم التاسع عشر من آب الجاري كان اختبارياً من الدرجة الممتازة، وهو الأهم من نوعه منذ يوم 9 آب 2016 الذي يمم فيه رجب طيب أردوغان وجهه شطر موسكو باستدارة كانت، ولا تزال، لها حمولاتها الثقيلة على المشهدين السوري والإقليمي.
قبيل يومين من 21 آب الجاري الذي بسط فيه الجيش السوري كامل سيطرته على مدينة خان شيخون دفعت أنقرة برتل ضم في قوامه خمسين ناقلة جند وخمس دبابات نحو الداخل السوري بينما المرامي كانت تتجه نحو إقامة نقطتي مراقبة في شمال وغرب المدينة قبيل سقوطها ما سيدعم من رمزية نقطة المراقبة التاسعة التي تتمركز في بلدة مورك التي بات عناصرها الثمانون بعد هذا التاريخ محاصرين لترصد رسائلهم التي أرسلوها إلى الداخل التركي طلبات ملحة للطعام و«الدخان إن أمكن»، نقطة المراقبة في مورك هي نتاج لاتفاق سوتشي الروسي التركي في أيلول 2018 الذي اختص بمنطقة التصعيد الرابعة في إدلب، والذي لم يطبق أي بند من بنوده بعد مرور ما يقرب من عام على توقيعه، بينما التطورات الأخيرة في مثلث الشمال تشي أو هي تضعنا أمام سيناريو لفرض تطبيقه عبر حدود النار، ولربما باتت الرؤية الروسية مؤخراً الخاصة بمماطلة أنقرة في تطبيق ذلك الاتفاق تقول بأن تلك المماطلة ليست نابعة فحسب من رغبة تركية في كسب الوقت وإنما هي نابعة أيضاً من أنها، أي أنقرة، ليست قادرة وحدها على الإيفاء بتعهداتها التي التزمت بها بموجب ذلك الاتفاق لاعتبارات تتعلق بطبيعة علاقتها المتحولة في كثير من الأحايين مع الفصائل المسلحة وخصوصاً الوازنة منها في إدلب، ثم إن مخرجات الاتفاق التركي الأمريكي بشأن الشرق السوري 7 آب الماضي كان قد فرض أيضاً واقعاً جديداً أضفى على تلك العلاقة طبيعة تحولية إضافية ناجمة عن رؤية جديدة لتلك الفصائل ومفادها أن أنقرة لن يكون بمقدورها خوض معركتين في شرق الفرات وفي الشمال السوري في آن واحد، ما سيفرض عليها حتما رمي إحدى «البطيختين» لأجل الاحتفاظ بالأخرى، ولم يكن الاختيار التركي المرتقب يخلق حيرة أو تردداً في أوساط تلك الفصائل شديدة الارتباط بها.
شكل حدثا 7 و19 آب مشهداً مترابطاً فاضحاً للخداع التركي، ولا بد أنه سيرسخ بعيداً في الحسابات الروسية المستقبلية، ومن بين شقوقه المتعددة يمكن تتبع خيوط المرامي التركية التي حددتها عوامل عدة هي مزيج من التاريخ وثقل المنهجية وطيف المصالح الذي يضيق ويتسع تبعاً للعاملين السابقين.
لم تكن استدارة أردوغان نحو موسكو آب 2016 التي أثمرت الكثير بدءاً من أستانا ومروراً بسوتشي ثم وصولاً إلى 12 تموز الذي شهد إرساء تجربة هي أقرب إلى تصالب الزمر الدموية أرادت من خلالها أنقرة لعب دور تماسيا كما جدار برلين حتى عام 1989 أرادت من خلاله أن تصبح، مثله، نقطة تلاق بين الشرق والغرب، قبيل أن يؤدي سقوطه في هذا العام الأخير إلى تراجع الثقل التركي في المعادلات الجديدة التي جاءت في سياقات تبلور نظام الأحادية الأمريكي، لم تكن تلك الاستدارة في محطتيها الأوليين، أي أستانا وسوتشي، تمثل تقارباً حقيقياً بل لا حتى اتفاق مصالح روسي تركي فرضته تطورات الأزمة السورية، وإنما كان ذلك أقرب لأن يكون رد فعل تركي على تقارب أميركي كردي شكل عملياً تهديداً للكيان السوري ولنظيره التركي في آن معاً، وهو بهذا المعنى يمثل تقارباً مرحلياً يعيش كل لحظه فرصة إمكان حرق المراكب، فالتحولات الكبرى لا يمكن أن تؤسس لها في العمق كمية المصالح ولا حتى فروض السياسة فتصبح مرتكزات حقيقية لها، وما يؤسس لها هو عوامل عدة أبرزها ثقافة المجتمعات والمزاج العام السائد المحددان للفكر السياسي الذي تتبناه القوى والأحزاب والتيارات السياسية، ونظرة متأنية لذينك المحددين في الشارع التركي تبرز بوضوح أن شريكي أستانا الروسي والتركي هما «السلافي» الذي خيضت معه عشر حروب بين العامين 1567- 1878، و«الصفوي» الذي خيضت معه اثنتا عشرة حرباً بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، في حين أن الذاكرة الجمعية التركية تحفظ أن تركيا لم تجد سبيلها إلى النهوض إلا مع سلوك طريق التغريب البادئ مع مطلع القرن التاسع عشر والمترسخ مع تجربة مصطفى كمال أتاتورك مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، وكتكثيف لما سبق يمكن القول إن ما يفرق تركيا عن شريكي أستانا كثير وما يجمعها بهما هو قليل ومرحلي، في حين أن ما يجمعها بالغرب ورأسه الأمريكي أكبر من أن تستطيع أي زعامة مهما بلغت من القوة زعزعته أو تهميشه، وبالتالي فإن الزبد الطافي على السطح في بحر العلاقة الأمريكية التركية لا بد أن تزول آثاره سريعاً بعد زوال «النو» الذي نراه اليوم، حتى في التطور الأهم والذي راهنت موسكو عليه طويلاً لعامين على الأقل وكان حاكماً للعديد من سياساتها في سورية وعلى امتداد العديد من الجبهات الساخنة في العالم، والمقصود به استقبال أنقرة لمنظومة إس 400 تموز الماضي، فإن زوال «النو» قد يكون مدخلاً لتكرار السيناريو المرير الذي لقيه الروس في مصر يوم 8 تموز 1972 عندما أبلغ الرئيس المصري السابق أنور السادات السفير السوفييتي في القاهرة «ف.م.فينوجرادوف» قراره الشهير بطرد الخبراء السوفييت شاطباً بذلك ستة عشر عاماً من استدارة عبد الناصر نحو الشرق، والجدير ذكره هنا هو أن ذلك القرار كان قد جاء بعد شهرين فقط من قيام إحدى بنات السادات بغناء أغنية للماريشال «جريتشكو» وزير الدفاع السوفييتي آنذاك خلال حفل عشاء أقامه السادات تكريماً لهذا الأخير، وللأمر رمزية مهمة، كانت الأغنية تتحدث عن «ليالي موسكو» التي تعلمتها ابنة السادات حينما كانت تحضر معسكراً للشباب في الاتحاد السوفييتي وفق ما رواه الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب».
في تشرين الثاني من العام 1989 كان المقدم فلاديمير بوتين نائباً لمدير محطة الاستخبارات السوفيتيه (KGP) في برلين وكان المدير يومها غائباً في موسكو، وفي أحد صباحات ذلك الشهر كان قد أفاق على هدير عارم من المتظاهرين المتدافعين نحو مبنى المخابرات الذي كان مسؤولاً عنه آنذاك، أظهرت سلوكية بوتين الذي تميز بهدوء أعصاب مذهل وكذا قدرة عالية على التركيز في أشد اللحظات صعوبة كفاءة هذا الأخير، فهو وسط ذلك الزلزال ثبت في مكانه وكان لديه الوقت، بعد هروب أغلبية العاملين في المبنى، ليقوم بحرق عشرات الآلاف من الوثائق السرية، إلا أن الصفة الأهم التي أظهرتها سلوكيته كانت قد برزت في قدرته على ممارسة «الخداع الإستراتيجي» فبعدما انتهى من أعماله خرج إلى المتظاهرين قائلاً لهم أن بداخل المبنى حراساً مسلحين بأسلحة نوعيه ولديهم أوامر بإطلاق النار على من يقتحم المبنى، وأن عدد القتلى سيكون كارثياً إذا ما فكروا القيام بعمل من هذا النوع، وعندها سارع المتظاهرون إلى الفرار على الرغم من أن المبنى لم يكن فيه أي مسلح، كان بوتين وحده أو معه بضع موظفين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة.
اليوم تكاد اللعبة التركية الروسية تكون شبيهة إلى حد كبير بالسياقات السابقة، وفي نهايتها سيتحدد من هو الأبرع في الخداع الإستراتيجي، وعلى الرغم من الاتصالات المكثفة بين الطرفين واللقاء الثلاثي الذي سيجمع بوتين إلى أردوغان مع نظيرهما الإيراني في 16 أيلول المقبل إلا أن المشهد المرتسم يشير إلى أن هذا الأخير سيرسخ المزيد من الافتراقات في إدلب التي قد تكون معركتها باتت أسهل مما كانت عليه قبل 21 آب الجاري، بل ومن الجائز أن تعود هذي الأخيرة إلى السيادة السورية بتوافق أو دون حرب، وفي مطلق الأحوال فإن الاجتماع سابق الذكر سيكون محدداً إذا ما حان الوقت لرفع شارة الوداع لأستانا ومعها سوتشي أم أن الوقت لا يزال مبكراً لرفعها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن