مجمع اللغة العربية يحيي الذكرى المئوية لولادة الراحل المجمعي والمحقق الدكتور سامي الدّهان الذي ولد في حلب سنة 1912، من خلال إصدار كتاب يتحدث عن سيرته الطويلة في الكتابة والترجمة والأدب، تأليف الدكتور عمر الدقاق.
حيث يسود الاعتقاد بأن المقومات الفطرية أقوى من المقومات المكتسبة، ومع ذلك لا يمكن أن نغفل أهمية المقومات المكتسبة وما للتربية من أثر في تكوين الإنسان، ومن الطبيعي أن تكون شخصية الدهان هي حصيلة هذين العنصرين، الفطري والمكتسب، ولكن نتاج العوامل المكتسبة لديه أكثر مما هو نتاج العوامل الفطرية، أو المواهب الذاتية، وكما يقول أحمد عصلة: «عقل ينتج، وجسد يتصرف، أكثر مما هو موهبة تبدع، وقريحة تجود، فقد كان اهتمامه بتربيته لنفسه منصباً على تنمية الشخصية الذاتية فيه، وهذا واضح في سلوكه وأخلاقه، وفي تفكيره العام، وفي هذا يكمن تفوقه، وتتجلى قدرته على الاكتشاف.
نشأته
ولد محمد سامي الدهان في الرابع من نيسان من عام 1912 للميلاد، لأب تاجر وأسرة لها تقاليدها القديمة، يقول في الحديث عن أسرته وعن وضعه فيها، واصفاً صديقه الذي يمثله في كتابه (درب الشوك): «لم يكن صديقي من أسرة تعنى بالعلم، وإنما كانت تسلك طريق التجارة، وهكذا كان الطفل منذ صغره يضيق ذرعاً بالزيارات والولائم التي يقيمها أبوه للأقارب والضيوف، ولعل أذنيه ملتا هذا الضجيج من غير طحن وكرهتا هذا الحديث المتكرر».
لقد ألحق سامي الصغير، بأحد الكتاتيب المنتشرة في حيه الشعبي القريب من باب النصر حيث استطاع أن يستظهر سوراً كثيرة من القرآن الكريم، أهلته لدخول المدرسة الفاروقية، وهي مدرسة ابتدائية وثانوية تجمع خيرة المدرسين، وألمّ باللغات الإنكليزية والفرنسية والتركية إلى جانب اللغة العربية، كما مارس النشاط المسرحي على مدى واسع، وتصدر مجلة للمدرسة يزينها الطلاب والمدرسون بمقالاتهم في العلوم والآداب، فزرع هذا النشاط في نفسه الناشئة حب العمل والكتابة والإنشاء.
ثم انتقل سامي إلى الثانوية الحكومية الوحيدة آنذاك أو المكتب السلطاني، وقد قوي ساعده الأدبي في تلك المدرسة التي كانت تهتم باللغة الفرنسية، وجعله أكثر قدرة على كشف أسرارها، فتحت نفسه للترجمة- وهو يافع صغير- وطفق فيما بعد ينشر ما يترجم أو يكتب من مقالات، في صحف سورية ولبنان ومصر، بتوقيعه حيناً وبالرمز إلى اسمه حيناً آخر.
شخصية الدهان
كان سامي الدهان جهماً قوي الجسم عريض المنكبين مفعماً بالحيوية طلق اللسان بادي الذكاء ذا فم واسع تتدفق منه الألفاظ بطلاقة ونبرات بادية القوة والوضوح، وامتاز بصوت جهوري مستملح قلما يكون ساكناً هادئاً، لأنه في صراع دائم مع نفسه، تلك النفس الكبيرة التي لا تستقر على حال، وتأبى عليه أن يخلد للهدوء، أو يرضى بحال، وهو عنيف لا يعرف الاعتدال إذا غضب أو أحب، ولكنه صديق مخلص، وطيب السريرة. إنه بارع في حديثه، لا يمل المرء سماعه، يتقن الفرنسية كأحد أبناء باريس. إنه واسع الخيال، دقيق الملاحظة، يتدفق في الكلام وكأنه نبع ماء ثرّ، حاضر البديهة سريع النكتة ولاذعها إذا اقتضى الحال، كما أنه واسع المعرفة، غزير الثقافة، يعرف الكثير عن مختلف الشعوب، وعن صفات الناس وأخلاقهم، ومع ذلك فهو لا يشبع من العلم ولا يرتوي من المعرفة. إنه طراز متميز من الرجال، وكان كثير السخرية في حياته التعليمية والاجتماعية ومرحاً كل المرح، كذلك كان دقيق الانتباه مع المحافظة على الوقار والاحترام.
عناصر ثقافته
استطاع الدهان أن يجمع بين الثقافة العربية قديمها وحديثها، والثقافة الفرنسية، وهما الثقافتان الأساسيتان اللتان كونتا الدهان.
بدأت علاقة سامي الدهان بالفكر الفرنسي خلال يفاعته في حلب، فقد كان يسمع بالأدباء والشعراء الفرنسيين من أفواه أصدقائه المسيحيين الذين كانوا يحبونه ويرحبون بحضوره جلساتهم الأدبية، وقد أتاحت له تلك الجلسات أن يتعرف إلى المدرس الفرنسي «غولميه» ومن بعده إلى زميله «هنري لاوست»، اللذين أحباه كثيراً، وقدما له خامات كبيرة، وكان لهما الفضل الأول في إيفاده بعثة علمية إلى باريس لتحضير رسالة الدكتوراه في الآداب، فقد أحب سامي الدهان فرنسا والفرنسيين منتهى الحب، ومن يقرأ كتابه «درب الشوك» يجده دائم الحديث عن باريس والفرنسيين بصورة عامة.
لقد ترجم الدهان لمجموعة من إعلام الأدب والفكر الفرنسيين، وفي مقدمتهم «جان جاك روسو» و«ألفرد دي موسه» و«ألفونس دي لا مارتين» و«ألفرد دي فيني» و«بول فاليري»، كذلك ترجم إلى العربية كتابات أخرى مختارة من الأدب الفرنسي، كما لخص مجموعة من الروايات الفرنسية، قدمها للصحافة اليومية، أو للمجلات الشهرية من أشعار وقصص ذات روح رومانسية حالمة، تضج بالشكوى والأنين وتبوح بآلام النفس وأحاسيسها، مما كان معهوداً في الأوساط الأدبية الفرنسية.
أعماله
شرع الدهان في تعريب قصائد الرومانسيين، فترجم لفيكتور هوغو قصائد: «لست أخشى الشيخوخة» و«أغنية الموت» و«دجى الليل» و«نابليون الثاني» و«الفقراء» و«الصباح» و«الدعاء» و«الولد الإغريقي».
كما ترجم قصائد «الحزن» و«إيشيا» و«زفرة غرام» و«ابن جفته» و«موسى على الطور» و«الضحية» و«موت الذئب» لألفرد دي فيني، وقصائد «موت البجعة» و«وداعاً» و«الحب» لألفرد دي موسه.
يعد الدهان من المربين الناجحين، والمعلمين الممتازين، لما يتمتع به من صفات ذاتية أصيلة، وأخرى مكتسبة، أهلته لاحتلال مكانة عالية بين مربي جيله ومعلمي زمانه.
فالذكاء الحاد، والصبر والجلد، وجهارة الصوت وقوة الشخصية، وصفات مكنته من الاستحواذ على قلوب سامعيه، طلاباً وجمهوراً، فكان إذا حاضر أو تحدث شد إليه الانتباه طوال وقت الحديث، ولعب بعواطف مستمعيه، وعقولهم لعباً حميداً، وجعلهم كأنهم تلاميذه أبداً، يتعلقون به، ولا يجدون الزاد الثقافي الوفير إلا في منهله. يشهد بذلك كل من أصغى إلى دروسه أو محاضراته من مثقفي أيامنا.
استطاع الدهان أن يجمع بين تراثنا القديم والتجارب مع الفكر الحديث، ودون أن يفقد توازنه في المزاوجة بين النزعتين، ويمكن أن نعد الدهان تلميذاً لطه حسين في هذا المجال، ذلك أنه أيده في كثير مما ذهب إليه في «الشعر الجاهلي»، ودافع عنه في قضية هذا الكتاب، كما يرى أن الشك قائم في الشعر الجاهلي وفي غير الشعر الجاهلي، فقد قرأ شعر عنترة، ووقف عند بعض غزله، كما شك في كثير من شعر الشعراء الأمويين، وشعر العذريين من الغزلين، فقد شك في وفاء جميل بثينة، وشك في شعر ابن الدمينة.
اهتم الدهان بالشعر العربي الحديث اهتماماً كبيراً، وأبرز ذلك الاهتمام في مجموعة من الدراسات عن إعلام الشعر العربي الحديث في سورية، ولبنان ومصر، والمهجر، فقد تناول بالدراسة شعر كل من: بدوي الجبل، وعمر أبي ريشة، وخليل مردم، وشفيق جبري، وخير الدين الزركلي، ومحمد البزم، من شعراء سورية، وذلك في كتابة «الشعر الحديث في الإقليم السوري» الذي أعيدت طباعته ثانية تحت اسم «الشعراء الإعلام في سورية».