قصر الحير الغربي… فنون أمويّة متجددة … قصر الحير الغربي روائع معمارية من الفترة الأمويّة
| المهندس علي المبيّض
من يزر تدمر والرصافة يدرك أن بادية الشام ليست صحراء قاحلة يتيه فيها الإنسان بل هي أراض شاسعة سكنتها القبائل باستمرار منذ أقدم العصور وآثارها تشهد بمجدها وتاريخها العريق وفيها حركة متواصلة فهي تقاطع مهم لطرق التجارة العالمية التي تعبرها من الجنوب إلى الشمال ومن أقصى الشرق إلى الغرب وتتوافر فيها البحيرات التي تتجمع فيها الأمطار والآبار المعروفة أسماؤها ومواقعها لأهل البادية منذ مئات السنين.
وقد أدرك الأمويّون عظمة هذه البادية فعمروها بالقصور فكان قصر الحير الشرقي وقصر الحير الغربي وقصر الوليد في سيس وقصر هشام بن عبد الملك في الرصافة.
وعلى الرغم من أن الحكم الأموي امتد نحو 90 عاماً تقريباً (662 إلى 750) م وهي أقصر بكثير من مدة حكم العباسيين التي امتدت نحو 500 عام (750 إلى 125) م ومع ذلك فإن العباسيين قد بنوا عدداً أقل من القصور التي بناها الأمويّون رغم طول المدة التي حكموها حيث أحصى الباحثون أكثر من 30 قصراً تم بناؤها خلال العصر الأموي، كما أن اللافت للنظر أن الدولة الأموية لم تكن على قدر الثراء الذي تمتعت به الخلافة العباسية وخاصة المبكّرة منها حتى تقوم بإنشاء هذا العدد الكبير من القصور والمنتشر بكثافة في بلاد الشام، نقطة أخرى مهمة وهي أن الأمويّين لم يكونوا أبناء الصحراء بل هم أسرة نشأت في مكة ثم المدينة أي هم أبناء مدن، وارتبطت أعمالهم بالتجارة ولم يكن ارتباطهم بالصحراء ارتباطاً جوهرياً حتى يعمروها بهذه القصور لذلك فقد يكون من الأسباب الكامنة وراء ذلك ما له علاقة بضمان ولاء القبائل المنتشرة في أرجاء البلاد حيث يتمكن الخليفة من الالتقاء بالقبائل العربية وشيوخها وأمرائها بشكل مباشر باعتبارهم الأساس الذي يمد الجيش بالمحاربين وكذلك لحل مشاكلهم وخلافاتهم، كذلك ليشرفوا بشكل مباشر على طرق المواصلات وذلك لفرض الأمن على طريق القوافل التجارية وطريق الحج لذلك فقد استخدم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان تكتيك الغساسنة في السيطرة على القبائل وضمان ولائهم وتجنيد أبنائهم فقام بإشادة المباني للإقامة في مناطقهم وفي الواقع فإن عبد الملك بن مروان هو الخليفة الأُموي الأول الذي ملك قصوراً متعددةً في سائر أنحاء البادية حيث كان يقضي الشتاء على مقربة من بحيرة طبريّا ثم ينتقل إلى الجابية وهي مدينة تقع إلى الشمال الغربي من نوى في سهل حوران، ومن آذار حتى أيار كان يقيم في دمشق ومحيطها، أما شهور السنة الحارة فيقضيها في مدينة بعلبك ثم يعود إلى دمشق في الخريف ليغادر العاصمة مجدداً إلى طبريّا خلال الشتاء وقد يعزو البعض ذلك لحالة الطقس لكنّ هذا السبب ليس كافياً وحده إنما السبب الأكثر إقناعاً أن الخليفة الأموي كان يتنقل بين مراكز مختلف القبائل ليبقى على تماس مباشر واطلاع دائم على ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية واحتياجاتهم المعيشية وتلبيتها.
وقد عرف الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بمحبته لبناء القصور وإنشاء الضياع والبساتين وتجفيف المستنقعات واستصلاح الأراضي فظهرت عام 727 م مجموعة معمارية مدنية متكاملة كان قصر الحير الغربي من ضمنها الأضخم والأجمل.
يقع قصر الحير الغربي على بعد نحو 15 كم جنوب غرب تدمر بالقرب من جبل رواق وعلى بعد 10 كم شرق مدينة السخنة، بناه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في عام 728 م على أنقاض دير يعود إلى العهد الغساني حيث دلت على تاريخ بنائه كتابة نقشت على ساكف أحد أبواب الخان المجاور للقصر، وكان يطلق على هذا القصر اسم الزيتونة وهو الاسم الأصلي أما اسم الحير فهي تسمية حديثة.
يأخذ القصر شكلاً مربعاً طول ضلعه 70م تقريباً محصّن ببرج اسطواني في كل زاوية من زوايا القصر باستثناء الزاوية الشمالية الغربية التي يأخذ برجها الشكل المربع ويقع على جانبي البوابة الرئيسية برجان كلاهما نصف اسطواني مزخرف شيّد جزؤه السفلي من المداميك الحجرية حتى ارتفاع مترين والتي تليها مجموعة من الصفوف المتناوبة المنفّذة من مداميك اللبن والآجر والشرائح الخشبية وزيّن بالجص المنحوت ليبدو المظهر العام للقصر أشبه بالحصن، وقد بني القصر وفق طراز العمارة الأمويّة التي تتّصف بوجود ساحة كبيرة محاطة بأروقة محمولة على أعمدة حجريّة قديمة ويتم الوصول من الباب الخارجي إلى الفسحة الداخلية عن طريق دهليز سقفه على شكل قبوات وتتوزع الغرف حول الساحة على طابقين ضمن مجموعة من البيوت المستقلة عن بعضها والتي يبلغ عددها ستة ويتراوح عدد الغرف في كل بيت بين 8 – 13 قاعة وهي تنسجم بأشكالها الخارجية وأبوابها، وعلى كل باب ونافذة شمسيّات ذوات زخرفة هندسية أو نباتيّة جصّية رائعة تسمح بدخول الضوء والهواء إلى الغرف وهي محاطة بقوس يتّسق مع الزخرفة الداخلية ويأخذ القصر حاجته من الماء من قناة تصل بسد خريقة الذي تم إنشاؤه قبل الإسلام وتم إصلاحه وترميمه عند بناء القصر ويبعد السّد عن القصر نحو 17كم من الجهة الجنوبية ويتم تغذيته من نبع الكوم وهو يحجز مياهه في بركة طولها 1550م وعرضها 800 م ويحتوي السّد على ثلاث فتحات من الحجر إحدى هذه الفتحات تتصل بقناة ضخمة من الفخار المشوي وتوفر المياه لجميع مرافق القصر السكنية والخدمية، كالجامع والطاحونة والخان وتسقي المزروعات في البساتين المحيطة بالقصر وكذلك الحمّام ذو الأرضية القائمة على شبكات التدفئة الفخارية والذي يقع خارج القصر إلى الشمال من البرج القديم، وقد قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بنقل جميع الرسوم الجدارية والعناصر الزخرفية وتيجان الأعمدة والتماثيل ومشابك الأبواب والنوافذ إلى المتحف الوطني بدمشق ثم أعيد بناء القسم الأوسط من واجهة قصر الحير الخارجية مع البرجين بارتفاع نحو 15 م تقريباً اللذين يحيطان بالباب الرئيسي في حديقة المتحف الوطني بدمشق عام 1950، كما شيد بيتان داخليان من بيوت القصر وأنشئ في داخل الواجهة جناح مفتوح عرضت فيه بعض القطع الأثرية التابعة للقصر مع مجسمين وفي الطابق العلوي أقيمت بعض الحواجز الحافلة بالتماثيل النافرة وفي الداخل تركت قاعة كبيرة من دون تقسيم لكي تضم لوحتي الفريسك الشهيرتين مع بعض القطع الأخرى، إضافة إلى أنه تم عرض بعض القطع المتبقية من آثار قصر الحير وأجزاء من الرسومات الجدارية وبعض المنحوتات في متحف تدمر، ولاشك أن المعمار والفنان السوري قدّم الكثير في كل العصور ولكنه أبدع وقدم الأجمل في العصر الأموي ويبدو ذلك واضحاً في هذا القصر وأسس لأهم المبادئ الفنية مثل التنظيم والتوزيع لأقسام البناء بشكل متناسق حول الفسحة السماويّة واعتماد التناظر في الزخرفة والتداخل بين الزخارف النباتية والهندسية وخاصةً في الأفاريز والتنويع الكبير في التصاميم التي تجلت من خلال الكم الهائل للزخارف الجصية المخرمة التي تعتبر المهد الأول للأشكال الزخرفية العربية (الأرابيسك) إضافة إلى العرض الكامل للحياة الفنية الإبداعية من خلال مجموعة هائلة من التماثيل الإنسانية والحيوانية والنحت البارز للأشكال النباتية، كما أن اللوحات الملونة (الفريسك (الرائعة التي فرشت أرض القصر لا تزال بحالة جيدة جداً وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على أنه شغل بعناية فائقة، ويعتبر القصر من أهم المنجزات المعماريّة التي قدمها لنا العصر الأموي حيث جمع في أسلوب بنائه وزخرفته بين ثقافات وفنون متنوعة فيها تزيينات ذات طابع غربي وأخرى لها نكهة الشرق تذكّر بأصالة العمارة العربية السورية القديمة في تدمر وبصرى كما نجد أنفسنا أيضاً أمام ولادة فن عربي جديد ذي طابع مميّز.
وأصبحت المجموعة المعمارية الباقية من قصر الحير والتزيينات التي انتهت إلينا من الزخارف الجصية التي جمعت من آثار القصر ومكوناته أفضل نموذج للعمارة الأمويّة ومصدراً رئيسيّاً لمعرفة منشأ الفن العربي الإسلامي.
وقد كشفت التنقيبات الأثرية في القصر عن رسومات جدارية وأرضية رائعة تناولت مواضيع دينية بالإضافة إلى مواضيع أخرى متعددة وغنية من الحياة اليومية غطتها النقوش المنتشرة في أرجاء غرف القصر وأروقته فكان منها عناصر معماريّة تؤلف سلسلة من المحاريب والقناطر والأعمدة والأقواس ورسوم هندسية ومواضيع نباتية عناصرها من أوراق العنب وسعف النخيل والورود والأزهار ومشاهد تمثل حيوانات وأشخاصاً في أوضاع مختلفة، ويضم القصر أيضاً أجزاء من تمثال شخص على رأسه عمامة شرقية وفي أذنه قرط ويرتدي ثياباً فاخرة متأثراً بالطراز الساساني ويقع فوق الباب الرئيسي ضمن القوس الفارغ حالياً ويعتقد بعض الباحثين بأنه تمثال هشام بن عبد الملك، ويقول الدكتور سليم عادل عبد الحق الباحث في علم الآثار أن دراسة هذا التمثال تدل على أنه صنع ليكون شكلاً رمزياً حيث أن طرفيه متناظران تماماً كما أن تفاصيل أعضائه وألبسته وحليّه واضحة ما يدلّ على أنه صنع ليشاهد من قريب لا من بعيد وارتفاعه الكلي 1.5م تقريباً وهو يتناسب مع ارتفاع القوس الذي يبلغ ابتداءً من عتبة الباب إلى أعلى فتحته نحو مترين وتؤلف زخارف قصر الحير الغربي النحتية مرحلة مهمة من مراحل تاريخ النحت في سورية وتعبر عن أفكار ذلك العصر وتذكر بالتماثيل المنحوتة في تدمر ودورا أوروبوس.
مستشار وزير السياحة