الإصرار الإسرائيلي على خلط الأوراق في المنطقة والاستمرار بعبثية سلوكه وتوسعها لتشمل العراق وسورية ولبنان، دفع الأمين العام لحزب اللـه السيد حسن نصر الله للتأكيد خطورة هذا السلوك الإسرائيلي، واصفاً أن استهداف عناصر للحزب في سورية وتوظيف الطائرات المسيرة ضد لبنان «بالمستجدات الخطرة جداً جداً» والسكوت عنها ستدفع الإسرائيلي من توظيف ذلك بالوقت الراهن ضمن أهداف انتخابية إلى اعتمادها مستقبلاً كسلسلة اعتيادية روتينية في نقل أزماته الداخلية أو لاعتمادها كوسيلة للاغتيالات أو التخطيط لها عبر الحصول على معلومات استخباراتية ورصد التحركات وتنفيذ عمليات الاغتيال، وهذا من شأنه تغيير قواعد الاشتباك التي بدأ الحزب بتثبيتها بالدم منذ عام 2006.
من المسلمات أن عبثية هذا السلوك الإسرائيلي وتوسيع رقعة جغرافيته، كانت لأهداف داخلية بحتة تتعلق بحساسية المشهد السياسي الإسرائيلي دون إغفال بعض الرسائل التي تريد تل أبيب إيصالها لبعض الدول الإقليمية وخاصة محور المقاومة، فرئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بموقف لا يحسد عليه سياسياً وهو أمام مفترق طرق، أما أن يفرض نفسه للفوز بالانتخابات «المعادة» خلال شهر أيلول القادم من خلال إبراز نفسه بأنه الشخصية الإسرائيلية الوحيدة القادرة على الإمساك بزمام المبادرة الأمنية والعسكرية لحماية الأمن القومي الإسرائيلي وتقديم نفسه للناخبين بأنه أفضل الخيارات المتاحة في الوقت الحالي وبخاصة بعد جملة الهدايا التي حصل عليها على المستوى السياسي من واشنطن وفي ظل علاقات التطبيع المتصاعدة مع بعض الأنظمة العربية، وفي حال إخفاقه بذلك ستكون نهاية مصيره وحياته السياسية متوجة في السجن بعد إدانته بقضايا الفساد، وهذا على المستوى الداخلي.
أما على المستوى الخارجي وبخاصة النظام الإقليمي فإن الصراع مع محور المقاومة وأرقه من تعاظم قوة حزب اللـه الردعية وانتكاس مشروعاته في سورية تشكل هاجساً جنونياً لنتنياهو ووزرائه وكل التيارات السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية لأنها تحد من تفوق إسرائيل في المنطقة وتهدد ديمومتها، وما تشهده صفقة القرن رغم كل الدعم والرعاية الأميركية والغطاء العربي فإن ولادتها ما زالت في مخاض عسير، فضلاً من خشية دخول الإدارة الأميركية بمفاوضات مع إيران بما يخفف حدة التوتر والصراع في المنطقة ويبقي إسرائيل ودول الخليج فقط بمواجهة إيران.
رغم إدراك نتنياهو وحكومته جدية حزب اللـه في تنفيذ تهديداته التي كبلت إسرائيل خلال الفترة السابقة من استهداف المقاومة في سورية بعد عمليتي الانتقام لشهداء القنيطرة واغتيال سمير القنطار، سارع الأخير إلى خرق قواعد الاشتباك وتوازن الردع مستثمراً التوقيت السياسي لدخول الإدارة الأميركية موسم الانتخابات الرئاسية وحاجة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى دور ودعم اللوبي الصهيوني، فضلاً عن الدعم المتناهي الذي يجاهر به صقور الإدارة الأميركية لتبرير هذا السلوك العدواني.
ومن ثم فإن الواقع السياسي يفرض وضع تصورين للمرحلة الجديدة التي أعلن عنها نصر الله، الأول هو السلوك الإسرائيلي قبل الرد الذي توعد به الأمين العام، والثاني فترة الرد وما بعدها.
على صعيد المسار أو التصور الأول: هناك إيقان وتسليم تام من النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية بأن الرد قادم لا محال للحفاظ على ما حققه الحزب من قواعد اشتباك وتوازن للردع بالدرجة الأولى، بغض النظر عن شكله وطبيعته، لذلك سيسارعون نحو تخفيف الثقل النفسي على المستوطنين واستثمار ذلك عبر رفع سقف التصريحات بالتهديد والدخول في صراع شعارات القوة التي تمتلكها إسرائيل وتجيش الرأي العام الداخلي نحو الانتخابات بضرورة انتقاء شخصية تحد من شرور «رأس الأفعى» أي إيران والمقاومة وفق وصفهم، وهذا ما ابتدأه بطبيعة الحال نتنياهو وعدد من وزراء حكومته وحزبه بالتهديد بالانتقام من إيران وتدمير لبنان والعودة به إلى العصور الحجرية، بالتزامن مع استمرار نتنياهو بعنجهيته سواء عبر القيام بمناورات عسكرية لاستعراض عضلات جيشه أم بالقيام بسلوكيات استفزازية على غرار ما حصل من استهداف لموقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين «القيادة العامة» في بلدة قوسايا في البقاع الغربي بعد 24 ساعة من الاعتداء على الضاحية وبعد ساعات قليلة من تهديد الأمين العام، وهذه السلوكيات الاستفزازية قد تستمر في استهداف الحشد الشعبي في العراق أو بعدوان جديد على سورية.
أما فيما يتعلق بالشق الدبلوماسي والسياسي فإن إسرائيل وحلفاءها وبخاصة الأميركيين سينشطون بتصريحاتهم التهديدية وباتصالاتهم السياسية الضاغطة على رئيس حكومة لبنان سعد الحريري لمنع حزب اللـه الإقدام بمثل هذا الرد موظفاً تهديده باستقالة الحكومة وإدخال البلد في نفق الفراغ السياسي والاقتصادي، فضلاً عن تصريحات القلق والتحذير التي قد يطلقها الفاعلون السياسيون في المجتمع الدولي وفي مقدمتها الأمم المتحدة.
بينما تشكل مرحلة الرد وما بعدها جوهر تحديد معالم وشكل المنطقة وتوازناتها، وهذا يتوقف على طبيعة الرد وتوقيته ومكانه وحجمه، واحتمالية الرد على الرد وتدهور الأوضاع وانفلاتها، وهنا يمكن طرح السيناريوهات التالية:
1- أن يحدث الرد في لبنان كما أشار نصر الله وداخل العمق الإسرائيلي بشكل متزامن أو متلاحق، نتيجة امتلاك حزب اللـه الحق بالرد على اعتداءين، وهنا سيكون الرد حازماً وحاسماً، حازم بعملية نوعية وبشكل يوجه صفعة مؤلمة للكيان الإسرائيلي ولحكومته يرسخ قاعدة التوازن وحاسمة تجعله يفكر ملياً في نتائج الرد على الرد، وغالباً فإن الرد من لبنان سيكون أما عبر استهداف الطائرات الإسرائيلية المقاتلة التي تستبيح الأجواء اللبنانية لاستهداف سورية، أو الاكتفاء بإسقاط الطائرات المسيرة أو إدخال حرب السايبر ومن ثم ستكون مرحلة جديدة في إدخال حزب اللـه توازن ردع جديداً على المستوى الجوي بعد المجالين البري والبحري، وقد يكون الرد على مركز إطلاق هذه الطائرات أو إحدى المطارات الإسرائيلية عبر صاروخ ينطلق من لبنان، فضلاً عن بنك الأهداف الذي استعرضه نصر الله في لقائه مع قناة المنار من خلال استعراض الخريطة الجغرافية.
وهنا تكتفي إسرائيل بالتهديد بالرد وتكثف واشنطن والعواصم الأوروبية من حجم حصارها الاقتصادي على حزب الله.
2- السيناريو الثاني: أن يقدم نتنياهو على الهروب خطوة إلى الأمام مستثمراً الدعم الأميركي ووضعه المحرج في القيام بعدوان جديد أو أن يقدم بالرد على الرد، يجبر بها الإدارة الأميركية على المشاركة مقابل الحصول على دعم اللوبي الإسرائيلي في الانتخابات القادمة.
السيناريوهات اليوم في المنطقة جميعها مفتوحة ومطروحة على طاولة الاحتمالات، فما بين عبثية نتنياهو وحاجته الانتخابية وجدية الرد المحتوم من المقاومة لتثبيت قواعد الاشتباك، يجعل الجميع واقفاً بقدم ونصف على حافة الهاوية، فالمقاومة لن تتخلى عن هذا الرد وتتوقع حجم الضغوط الداخلية والخارجية عليها، وهي تدير معركتها وردها النفسي قبل العسكري وعلى نتنياهو أن يتوقع جميع أشكال الصفعات بما فيها احتمالية الرد قبل أيام أو أثناء الانتخابات، فالعين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم.