ثقافة وفن

مأساة بائع الكتاب والسينما والمسرح!

| إسماعيل مروة

دخلت على أحد أصدقائي الأجلاء، أوصلت إليه أحد الكتب المرسلة إليه معي من أحدهم، فقال: يكفي لا أريد كتباً، أعطه لأحد يقرأ.. وقبل أسابيع كنت في زيارة أحد العلماء الأجلاء، فأخذ يناولني كتباً من رفوف مكتبته، وهو يقول: هذه كتب لا أحتاجها، وأنا في عمر لا يؤهلني للقراءة، خذ كل الكتب التي باللغة العربية.. وقبل معرض الكتاب العربي الذي سينعقد في دمشق أحببت زيارة أحد الأصدقاء الناشرين لمعرفة ما سيقوم به في معرض الكتاب لهذه الدورة، وقبل أن أسلم أو أسأل بادرني بالقول: خذ ما تريد نسخاً من هذا الكتاب، إنه كتاب مهم لكاتب كبير راحل، فتابع صديقي الأستاذ عادل الناشر العتيق قائلاً: لم أشارك في معرض الكتاب، لأن سوق الكتاب ليس جيداً، وفي الغالب لا نجمع أجرة الجناح، وقد اتصلت باتحاد الناشرين السوريين، وأخبرتهم بأنني سأرسل لهم من كتاب كذا.. وكتاب كذا.. وبقي يذكر الأسماء والعدد حتى جاوز عشر كرتونات، فقلت له: هم وكلاؤك؟ قال: لا.. أريدهم أن يوزعوه مجاناً على الزوار، فتابعت لأظهر حصافتي.. المهم أن يذكروا اسمك أو دارك، وأن يوزعوه مجاناً، فقال بعصبية لا.. ليس كذلك، لقد تحدثت مع رئيس اتحاد الناشرين، وأخبرته بأنه ما من داع لذكري أو ذكر داري، المهم، وهو الشرط الوحيد الذي وضعته عليهم هو ألا يعيدوا نسخة واحدة.. لا أريد أن يبقى أي نسخة، أتريد أن أنتهي من إيجار المستودع؟ ناشر عمره أكثر من ثلاثين عاماً، وكتبه منوعة وفيها كتب ذات قيمة رائدة، يريد أن يتخلص من كتبه من أجل إيجار المستودع!
ناشر تخيّر كتبه بعناية، وأقول: إن أغلب منشوراته من الكتب التراثية لغوية وأدبية، وتراثية أصيلة، تخلو من التوجهات الدينية الإيديولوجية، وإن كان لديه عدد من الكتب المهمة في التفسير، وهذا الجانب متهم لدى الكثيرين بأنه الجانب الرائج في مهنة الكتابة والنشر! فأي رواج للكتاب التراثي؟
لا أريد أن أذكر أسماء المؤلفين والباحثين والمحققين الذين نشروا أعمالهم في هذه الدار حتى لا يظن في ذلك إساءة، ولكنني كنت أجلس جانبه حين اتصل بعدد منهم، أو بورثتهم ليخبرهم بقراره، وكان الجواب ليس لدينا متسع، بإمكانك أن توزعها مجاناً عن روحه!
هل يصدق أحدنا أن بضاعة ثمنها الملايين لا يكلف الورثة خاطرهم برؤيتها أو نقلها، لمجرد أنها كتب تحتاج لمكان وعناية..!
والناشر الذي يجمع مدخراته، ويبيع مصاغ زوجته فرحاً بكتاب جدير يريد طباعته، اليوم يريد أن يتبرأ منه، وأن يمحو ذكرياته وحياته لأنه بات عاجزاً عن دفع إيجار المستودع، ولأنه يجلس قرابة ثماني ساعات وراء طاولته ليبيع بألف ليرة من كتب يصل عددها إلى مئات الآلاف من الكتب..!
قال لي: سأجهز لك علباً بالكتب تأخذها إن كان لديك مكان! فقلت له آخذ كتبي، لكن.. فأضاف بدون ثمنها كتبك وكتب سواك، أي كتاب من الكتب، مهما كان مهماً، سأبقي منه عشر نسخ على الأكثر، وسأعمل على استثمار هذا المحل من قبل أحد الخبراء، ولا شك بأن عوائده ستؤمن لي ولأسرتي دخلاً لائقاً لم يستطع الكتاب تأمينه خلال رحلة النشر التي امتدت أربعين عاماً كناشر مستقل، وأكثر من خمسين عاماً في عالم الكتاب ونشره!
كتب صنعت خصيصاً لدمشق وذاكرتها
كتب صنعت خصيصاً للدكاكين وتاريخها
كتب لا أدري ما أصفها، لكنها..
أما يسترعي ذلك الانتباه؟
أما يدق ناقوس الخطر؟
سأمرّ من أمام مكتبة لأجدها ضاجة بالأراكيل والوجبات السريعة لا مكان لمن يريد، والكتاب تتقاذفه الأقدام على الأرصفة..!
لا أتحدث هنا عن ناشر محدد، ولا أرثي الكتاب، فلربما كان الكتاب الإلكتروني في مكانه مستقبلاً، لكنني أرثي جيلاً وأمة، وأتوجه إلى الذين يبحثون عن خلاصها ومستقبلها، فكيف يكون المستقبل إذا كانت المدن الكبرى تفتقد المسارح ودور السينما؟ وكيف تنهض الأمة دون فن راق وجميل؟ وكيف تنهض دون كتاب ورقي؟ وكيف تنهض دون وجود طبقة وسطى مثقفة؟
لو مرّ أحدنا أمام دور السينما الدمشقية العريقة، فسيجد بعضها وقد غطى أبوابه طبقات من الإسمنت والحديد، وبعضها فيه إعلانات وأفيشات لعرض حالي وعرض قادم وعرض سابق! ولا تزال عبارة -يسمح بعرضها- التي رافقتنا في شبابنا ومراهقتنا موجودة.. ولكن لا عروض ولا أفلام ولا أجهزة!!
هل يعقل أن تكون أهم دور السينما مقهى؟
في التسعينيات تألمت عندما كنت أجلس في حلب في مقهى تحول إلى مقهى بعد أن كان سينما، وقلت لصديقي يومها، وهو مهندس حلبي من آل المدني.
إن هذا نذير شؤم!
فما فائدة أن تجلس الأركيلة في البلكون؟
ما الفرق بينها وبين الصالة؟
ضحك من تعليقي، ولم يكترث..!
كان السوريون في الستينيات وحتى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين يمارسون طقساً جميلاً هو زيارة السينما زيارات عائلية، ويحضرون أفلاماً مهمة، ويحضرون مسرحاً، ويحضرون في مثل هذه الأيام حفلات فيروز في معرض دمشق الدولي، فهل حدث التراجع فجأة؟
هل أسسنا لحياة جديدة؟
أمن عبث تسلل التحجر إلى حياتنا؟
أمن فراغ حضر التطرف؟
عندما كنا طلاباً كانت مدارسنا تنظم رحلات لحضور السينما بأجور رمزية فهل تضع وزارة التربية هذا في خطتها؟
أزعم أن رحلة مدرسية إلى السينما أو المسرح كفيلة بتنمية الذوق والإبداع لدى الطلبة، وأكثر جدوى من درس في الرياضيات أو اللغة العربية أو في الدين والسياسة.
مذ غابت الثقافة التفاعلية عن حياتنا بدأت ثقافات أخرى تحلّ مكانها، وصار سهلاً أن تتحول صالات السينما الفخمة إلى مقهى ومكان عشق من الدرجة العاشرة، وربما أكثر من ذلك! مذ غاب إحساسنا بالثقافة تحولت مكتباتنا إلى كافيات! مذ غاب رأينا بالثقافة صار محل الوجبات السريعة أهم من دار الأوبرا..! بل ألم نسمع عن عدد من المتنفذين الذين نووا استثمار الأوبرا ومحيطها في مثل هذه الأنشطة؟!
أرادوا أن ينهوا الثقافة في عقر دارها لولا وعي من الجهات العليا المسؤولة!
إن كل ما عصف بسورية ثقافي وحسب، ولا شيء غير الثقافة، فأعيدوا الألق، اصنعوا سينما جماهيرية تجارية لكنها ليست رخيصة، ساعدوا الصالات وأصحابها، استقدموا التقانات، قدموا القروض والتسهيلات، شجعوا المسرحيين، أعيدوا الألق للفن والإبداع والثقافة.
ستعود سورية منارة ثقافة
بعد كل فيلم هناك من يشتري كتاباً
وكل زيارة إلى مكتبة ستلفت الانتباه إلى فيلم
وكل مهرجان سيعيد الألق إلى المسرح.
سيحدث الأمر بمنتهى البساطة، ليس الأمر معجزة، ولا ينقصنا سوى الإرادة والمتابعة، والتخفيف من جوانب الفساد، ولو وزع ما يحدث في الفساد لكانت الأمور في أفضل مكان.
أرجو ألا يغلق الناشر مكتبته.
وأرجو ألا تتنازل الدولة عن دورها في رعاية الثقافة والفن وأن تتوجه إلى الناس وحياتهم وليس أن تكتفي بالرسائل التي عافها الناس.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن