من دفتر الوطن

اغتيال نادي الصحفيين

| حسن م. يوسف

قبل نحو أربعين عاماً اختارني الأستاذ صفوان غانم، الذي كان رئيس لجنة اختبار اللغة الإنجليزية، لأكون أحد ثلاثة صحفيين يوفدون للدراسة في المعهد العالمي لتدريب الصحفيين في بودابست، برفقة الشاعر الصديق بندر عبد الحميد، من جريدة البعث، والصحفي الزميل نبيل قباقيبي من الوكالة العربية السورية للأنباء، سانا.
في تلك الأيام كان يطلق على بودابست، باريس الشرق، وقد صارحني صديق كثير الأسفار، يعرف كلتا المدينتين، أن بودابست أقرب إلى القلب من باريس وأكثر منها أمناً ودفئاً وخصوصية. صحيح أن بودابست كانت ولا تزال هي الأقرب إلى قلبي بعد دمشق والقاهرة، غير أني لن أحدثكم عن تلك المدينة التي عشت فيها أجمل أيام حياتي، بل سأقصر حديثي على نادي الصحفيين فيها.
أذكر حتى الآن أن نادي الصحفيين الهنغاريين كان آنذاك عبارة عن مبنى جميل أبيض، يتوسط حديقة غناء يانعة الخضرة، على شاطئ نهر الدانوب، وهو يحتوي على قاعة مكتبة وصالة سينما وقاعات للبلياردو والشطرنج وكرة الطاولة، وحوله ملاعب مختلفة… الخ. كما يحتوي على مطعم فخم تقدم فيه الأطعمة الفاخرة بسعر الكلفة تقريباً، وهو لا يستقبل إلا الصحفيين وضيوفهم حصراً.
أعترف لكم أن فكرة إقامة ناد للصحفيين السوريين قد سحرتني، وتحولت إلى هاجس بالنسبة لي، لدرجة أنني عقب عودتي إلى دمشق، غيرت موقفي الرافض للعمل النقابي، ورشحت نفسي لعضوية مؤتمر الصحفيين، وعندما انتخبت عضواً في مجلس الاتحاد، لم أفوت أي فرصة من دون أن أتحدث فيها عن فكرة إقامة ناد للصحفيين. وبفضل التكرار، راقت الفكرة لكثيرين من الزملاء، فتم تبنيها في مجلس الاتحاد، وكلف المكتب التنفيذي بمتابعتها، وبعد بضعة أعوام، نجحنا في إقناع الجهات المعنية بالموضوع، فتم تخصيص بيت عربي لنا في منطقة العفيف القريبة من الجسر الأبيض، مستملك من أمانة العاصمة، وكان يستخدم من وزارة التربية كمدرسة طوال عقود. وعندما دعوت عديلي العزيز وليد عكاوي إلى نادي الصحفيين لأول مرة، أخذته الجمدة، وراح يحدق في المكان مذهولاً إذ اكتشف أن مدرسته كانت في ذلك المبنى!
صحيح أن فكرة نادي الصحفيين قد مسخت تدريجياً مع الوقت، إذ انكمشت الفعاليات الثقافية والنقابية التي بدأت خجولة فيه، فتحول النادي إلى مجرد مطعم للعموم، يطرح للاستثمار بمناقصات علنية، لتأمين مصدر دخل لاتحاد الصحفيين والعاملين فيه، والفرق الوحيد بينه وبين أي مطعم آخر هو أنه يمكن للصحفي، الذي يعرف حقوقه فقط، أن يحصل فيه على حسم ثلث الفاتورة تقريباً.
خلال العقد الماضي ارتفعت الأسعار في (مطعم) الصحفيين، وانخفض مستوى رواده، حتى لم يعد يرتاده سوى قلة قليلة من الصحفيين، والحقيقة أنني لم أعد أتردد إلى نادي الصحفيين، الذي أعتبر نفسي بمنزلة والده الشرعي، إلا في الحالات الخاصة، عندما اضطر لتوجيه دعوة رسمية، أو لعقد لقاء مهني مع شخص لا أعرفه، إذ انكمشت علاقتي العاطفية بذلك المكان حتى باتت تقتصر على الاسم فقط: نادي الصحفيين.
قبل أيام قرأت على صفحة الصديق سامر محمد إسماعيل، لسان حال موجع مفاده أن اسم «نادي الصحفيين» قد تم نسفه واستبدل بـ«قصر الدراما» وقد وجه الصديق سامر نقداً حاداً لاتحاد الصحفيين لأنه: «يؤجر نادي الصحفيين بهذه الطريقة لأرباب المال في هذا البلد السعيد، ويقضي على ذاكرة مكان ما زالت ضحكات ونقاشات كتاب وأدباء ومثقفين تزخر بين جنباته. للأسف لم يعد لنا مكان في هذا البلد الأمين، فلا صحافة ولا صحفيين. المطلوب هنا هو دراما الشوارب والحرملك والزهزهة على مرقة الفول».
لا أخفيكم أنني ما كنت لأصدق أن المستثمر الجديد لنادي الصحفيين قد سمح لنفسه بتغيير اسمه، إلى «قصر الدراما» لو لم أر ذلك بأم عيني! وقد أدهشني الأمر حقاً، لأن هذا التغيير مخالف للقانون. فمحافظة دمشق عندما وضعت العقار تحت تصرف اتحاد الصحفيين، اشترطت أن يكون نادياً للصحفيين، لا مطعماً لحيتان الدراما!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن