أصيب الكثير من البريطانيين بالصدمة جراء موافقة الملكة إليزابيث على طلب رئيس الوزراء بوريس جونسون تعليق عمل البرلمان لأسابيع، واعتُبر ذلك خطوة لتنفيذ «بريكست» من دون اتفاق، مع انتهاء المهلة الأخيرة أواخر تشرين الأول2019. أغلب المراقبين رأوا الخطوة انقلاباً على النظام الديمقراطي، وإخلالاً بتوازن السلطات، ومقامرة بمستقبل بريطانيا ووحدتها من متطرفي اليمين البريطاني بالتضامن مع مؤيديهم في واشنطن، رغم أن الملكة منحت الغطاء القانوني لانقلاب جونسون. التوقعات تميل إلى أن جونسون سيسعى لإنهاء عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، وفرض إجراءات استثنائية لمواجهة معطيات سلبية، اقتصادياً واجتماعياً ولوجستياً، المترتبة على ذلك، مع التحالف مع الولايات المتحدة، وإسرائيل، وبلدان الخليج العربي النفطية.
جونسون، الذي يمثّل الجناح الشوفيني المتطرف في اليمين البريطاني، والمتحالف مع نخبة 1 بالمئة من البريطانيين الفاحشي الثراء، ليس معنياً كما يبدو بكل التحذيرات. وهو يتوهم أن ذلك، سيمنحه الحصول على الأغلبية في انتخابات عامة يدعو إليها، والبقاء في السلطة لخمسة أعوام مقبلة. سدّد جونسون ضربة استباقية للبرلمان البريطاني، في محاولة منه لمنع نواب المعارضة من التوصل إلى قرار يوقف خروج بريطانيا من دون اتّفاق من الاتّحاد الأوروبي، الأمر الذي وصفه رئيس مجلس العموم جون بيركو بـ«الفضيحة الدستورية لانتهاكه القيم الدستورية» وقال: صعقت إزاء تهور حكومة جونسون، وهو يتحدث عن السيادة في الوقت الذي يسعى فيه لتعليق عمل البرلمان من أجل تجنب الرقابة على خططه الرعناء لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، هذا انتهاك وتهديد لنظامنا الديمقراطي. النائبة عن حزب العمال البريطاني المعارض دايان أبوت قالت: إنه هجوم على الديمقراطية، لو كان الموضوع في بلدٍ من أميركا اللاتينية لاعتُبر القرار انقلاباً يؤيده الرئيس الأميركي دونالد ترامب. من جهتها، كتبت رئيسة الوزراء الإسكتلندية وزعيمة الاستقلاليين الإسكتلنديين نيكولا ستورجن على موقع «تويتر»: ما لم يتوحّد النواب الأسبوع المقبل لمنع تعليق أعمال البرلمان، فسيدخل هذا اليوم في التاريخ كيوم أسود للديمقراطية البريطانية، كما أدلى برلمانيون وشخصيات بتصريحات نارية لوسائل الإعلام، وهدد بعضهم بالاعتصام داخل مبنى البرلمان، وأنهم سيلجؤون إلى القضاء.
أشاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب برئيس الوزراء البريطاني جونسون، وكتب ترامب على موقعه: بوريس هو بالتحديد ما انتظرته المملكة المتحدة، وسيثبت أنه رجل عظيم. البرلمان البريطاني طالما ادعى المباهاة بالديمقراطية، تم منعه وحرمانه من أن يكون له رأي إزاء أصعب القرارات التي تواجهها البلاد الآن منذ أكثر من أربعة عقود، وكذلك فإن الشعب البريطاني الذي يدعي جونسون أنه يتصرف باسمه، قد شمله ذلك الحرمان. قد يسعى جونسون إلى تجاهل مثل هذا التصويت ومحاولة التمسك به حتى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ستكون هذه إهانة دستورية أكبر من أفعاله.
وكأن جونسون زرع قنبلة تحت المؤسسة الدستورية في البلاد ما يهدد الديمقراطية. المراقبون وصفوا جونسون بأنه «ترامب بريطانيا»، نظراً للتشابه بينهما سواء في المظهر الخارجي أم طبيعة الشخصية، حيث عرف رئيس الوزراء الجديد بتصريحاته المثيرة للجدل وكأنهما وجهان لعملة واحدة، كما يستخدم الرجلان لغة عنصرية تجاه الأجانب. كلاهما شخصية متهورة تطلق مواقف وتتراجع عنها.
كيف العمل لإنقاذ الديمقراطيّة؟ سؤال يطرحه بعض البريطانيين في مواجهة سؤال آخر يطرحه بعض آخر: كيف العمل للإجهاز عليها؟ السؤال يتناول أشكال التمثيل الشعبي وصِيَغه، والتفاوت الاقتصادي ودور المال، ولاسيما في ظلّ النيو ليبراليّة، كما يتناول الشعبويّة وتركيبة النُخب السياسيّة. محنة الديمقراطيّة، إشعار بخطورة الانهيار الديمقراطي.
في العالم العربي يحضرني مشهد التحالف ضدّ الديمقراطيّة الذي عاش طويلاً ولا يزال، بين الحريصين على العقائد الصافية والحريصين على الامتيازات الصافية. البعض الأول يقول إن الديمقراطيّة زائفة لأنّها بورجوازيّة ولأنّها قد تكون ذريعة لغزو استعماريّ. والآخرون يقولون أشياء مشابهة ويضيفون إنّها نوع من النباتات الغريبة لا تُستَزرع في بيئاتنا ذات الخصوصيّة المختلفة. محنة الديمقراطية البريطانية تذكرني بتلك العبارة المنسوبة إلى رئيس وزراء بريطانيا السابق ونستون تشرشل والتي أصبحت مملة لشدّة تكرارها: أسوأ شكل في الحكم بشرط أن نستثني جميع الأشكال الأخرى. ناشد رئيس الوزراء الأسبق، جوردون براون، أعضاء البرلمان بمنع خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، محذراً من أن ذلك سيمنع دخول الطعام إلى بريطانيا بانتظام، وسيدفع البريطانيين إلى المزيد من الفقر. مُني جونسون، يوم 4 أيلول 2019 بهزيمة مؤلمة في البرلمان، بعد انشقاق 21 نائباً محافظاً وتصويتهم إلى جانب نواب المعارضة، أبرزهم حفيد رئيس الوزراء الراحل وينستون تشرشل نيكولاس سومس. اقترح جونسون تنظيم انتخابات مبكرة في 15 تشرين الأول المقبل، إذا أقرّ مجلس العموم ،البرلمان، قانوناً يستهدف منع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، من دون اتفاق، وأرغمه على أن يطلب من بروكسيل إرجاء موعد الطلاق ثلاثة أشهر. وصف جونسون مشروع القانون بأنه قانون استسلام. وتفيد الأمم المتحدة بأن خروجاً من دون اتفاق سيسبّب خسارة البريطانيين 14.6 بليون يورو، هي عائدات صادراتهم إلى الاتحاد. تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8 بالمئة عام 2018، إلى نسبة 5.5 في المئة الآن. وقدّر أن معدل البطالة قد يرتفع إلى 7 بالمئة، علماً أن نسبة البطالة الآن هي 3.9 بالمئة. أما بالنسبة إلى التضخم، فقد يرتفع إلى 5.25 في المئة، مقارنة بـ2.1 بالمئة الآن. وبالتالي هناك هزيمتان مدوّيتان لجونسون أمام البرلمان: لا «بريكست» بلا اتفاق ولا انتخابات مبكرة.
تم فرض واقع جديد على رئيس الحكومة، وتقييد قراره المتعلق بـ«بريكست»، إضافة إلى منعه من إجراء انتخابات مبكرة كان يسعى إليها. في اليوم الأول بعد عودتهم من عطلتهم الصيفية، صوّت النواب المحافظون المتمرّدون ونواب المعارضة، من أجل تقديم مشروع قانون يُجبر رئيس الوزراء على طلب تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حتى 31 كانون الثاني 2020، كي يمنعه من الخروج من الاتحاد الأوروبي في 31 تشرين الأول من دون اتفاق، وسيُحوَّل مشروع القانون إلى مجلس اللوردات للموافقة عليه. جونسون سعى، وفق القانون البريطاني، إلى الحصول على موافقة البرلمان لإجراء الانتخابات المبكرة، قبل القمة الأوروبية في 17 تشرين الأول، وجاءت النتيجة مخالفة لأمنياته. إن «انقلاب» جونسون برائحة ترامبية، يحظى بدعم أميركي، قد يؤدي إلى إعادة تموضع إستراتيجي لبريطانيا سياسياً واقتصادياً لتدير ظهرها للجيران الأوروبيين، وتتجه غرباً نحو الحليف الأميركي لتصبح مجرد جزيرة شرق الأطلسي.
لقد أطلق جونسون مرحلة جديدة لرحلة للإمبراطوريّة البريطانية البائدة نحو الترامبيّة، وعصر انتصار الشوفينيّات والفاشيات الجديدة.