ثقافة وفن

الشاعرة ليندا إبراهيم تسرد حكايتها «على الجسر العتيق»

| سارة سلامة

السرد هو أسلوب اختارته الشاعرة ليندا إبراهيم في مجموعتها الجديدة التي حملت عنوان «على الجسر العتيق»، في أسلوب مرن ينسجم مع طبع الكثيرين من الكتّاب، ويعتبر أداةً للتعبير الإنساني، من خلال ترجمة الأفعال الإنسانية والأماكن إلى بنى من المعاني، وتحويل المعلومة إلى كلام، وفي السرد تتلاشى الحاجة لشرح الأفكار أو تلخيص المراد، لأن السرد يظهر كل ما هو مراد، في تركيزه على الأحداث الأساسية الهادفة.
يتأثث الكتاب السردي (على الجسر العتيق) للشاعرة ليندا إبراهيم بالذاكرة والحزن والحنين في لغة شعرية تسعى إلية الجمالي والمعرفي بفاعلية مؤثرة تمنح التكوينات النصية ودلالات أكثر خصوبة في تجسيد الصراع بين الـ(أنا) والـ(آخر).
عبر الكشف عن المخفي والمستور والمحجوب تقدم ليندا إبراهيم سردها الذاكراتي من خلال أحداث وشخوص يشرقون بالدمع الفائض، ويطلقون العنان لاسترجاعاتهم التي تغادر الحاضر، لتضج بفضاء يمتد من الطفولة وحتى الراهن.

نصوص لصيقة بالهمّ الفكري
وفي تمهيد الكتاب قالت إبراهيم: «أعترف أنه ظهرت إلى العلن لدي أولى أفكار كتابة هذا النوع من الكتابة الأدبية، عندما بدأت بكتابة مقالات لزاوية الشؤون الثقافية في إحدى أهم وأعرق الصحف السورية وهي صحيفة الثورة السورية، لم أكن ألقي بالاً لطبيعة الجنس الأدبي الذي أكتبه سوى أنها كتابة تتناول حياة السواد الأعظم من الناس حولي، وأفكارهم وشؤونهم وشجونهم، وأهم الأفكار التي تصادفني كشاعرة أعمل وأحتك وأتعامل مع النخب الثقافية، والوسط الثقافي، في سورية وخارجها، سواء كان عملاً ثقافياً مهنياً، أم بصفتي الأدبية.. وبت على اشتهاري بصفة شاعرة، في الحياة الأدبية والثقافية العامة في سورية، أنتج نصوصاً لصيقة بالهمّ الفكري والثقافي والهم الوطني، وخاصة أنه باتت تتوسع وتكبر دائرة القراء والمهتمين.
ولا أخفي على قرائي الأعزاء، أن الشاعر تحديداً، من بين جميع حملة القلم، يتوجس أيما توجس حينما يطرق أي باب آخر في الكتابة الأدبية، فهو مثلاً متهم بلغة عالية متعالية باذخة أو قل لغة شعرية، كما أنه متهم بمفارقة الواقع والكتابة الحياتية الواقعية، لجهة خلق عالم متخيل رومانسي حالم بعيد عن الواقع والعيش فيه، ومتهم قبل هذا وذاك، باعتكافه في برجه العاجي وتعاليه على الكتابة باستثناء الأجناس الأدبية الأخرى تعصباً للشعر، على أنه يعتبر لغته أسمى وأكبر وأهم وأرقى وأعلى من سائر الأجناس الكتابية الأخرى.
على الجسر العتيق

تنبه أبو تمام، إلى وقع خطوات تقترب من الدار، خمن في سره، لعل طارقاً من أهل الموصل قد قصده لأمر جلل، وذلك أن الوقت كان متأخراً من ليل ذلك اليوم المشهود.
نهض من بين القراطيس، وعدد الدوريات المتناثرة هنا وهناك، وريشة لما يجف حبرها بعد، ليستكشف من الطارق.
كان قد أمضى ليالي طوالاً، عاكفاً على قراءته ومنتخباته وأوراقه، يعتصر حبر روحه، وسلافة قريحته، وخالص شجونه وهمومه وآلامه، لينجز قاصمة الظهر، وقارعة الأبد.
كان الوقت يربو على الهزيع الأخير من الليل، أما دجلة، فكان يرسل حداءه الحزين موجاً هائماً بضفافه، وعاشقاً مولهاً بحبيبته الحدباء، في حين راحت أسراب اليمام تنمش خد الليل العاشق على «الجسر العتيق»..
قيلت أساطير، ورويت حكايات كثيرة، عن عشاق ألقوا بأنفسهم إلى دجلة كرمى حبيباتهن.. كل من قدم البلدة القديمة، ولم يمش على الجسر العتيق، كأنه لم يزر الموصل أبداً، حتى ولو مرّ بها حياً حياً، وداراً داراً، وزقاقاً زقاقاً.
فتح الباب، وظهرت أمامه قامة فارعة المجد، باذخة الشعر، وهل يخطئه القلب، أو تنكره الروح؟ إنه «أبو الطيب»، وذهل «أبو تمام» أمام الوافد العزيز:
-أبا الطيب!، ما الذي دهم الديار حتى تأتي من «حلب» إلى «الموصل» في هذا الوقت المتأخر، والليل البهيم؟
ودلف أبو الطيب إلى صحن الدار مطرقاً، متجهم الوجه، مهموماً مبلبل البال، وقد خضبت روحه بالدماء الشهيدة التي سالت على أرض الحب والجمال.

حب ومدينتان
الساعة الآن الثانية عشرة شوقاً بعد منتصف العمر..
خادعت طيفه، وانتبهت إليّ، أجس جسداً مضرجاً بالحب، مثخناً بالأنوثة، في حين عرائس الشغف تخطن لي أثواب الشهوة لليلة لن تأتي، وموعد لا يجيء.
خرجت إلى الشرفة، أستنشق رائحة تراب ظميء بلله دمع أيلول، حيث هناك، على القمم القصية الذاهبة مع النقاء إلى الله، ومع كل ومضة للحياة، كان ذلك الوجه الأثير يزداد نمشاً وحسناً، ومع كل علامةٍ للخجل، كانت الروح تشهق ملء القلب، وعصافير اللهفة تعلن بدء موسم جديد للحب..
هناك حيث جلسنا، على ضفة الشوق، حيث الحديقة، بمقاعد عشاقها، نضيف لحلمنا حلماً آخر ببيتٍ جميل يطل على دجلة، لا مكان فيه إلا للورود الجورية الحمراء، والياسمين الشامي.. وأتذكر قوله: «حين أرى وجهك، أشم رائحة الياسمين.. اقتران في داخلي بين وجهك والياسمين..
وأفكر.. لربما تكون الفكرة صادمة بعض الشيء، أو مفرطة في السذاجة، لكن الحقيقة أن الحب يرتبط أحياناً كثيرة بالموت، ورددت قول الفيلسوف والأديب «آلان باديو»: «هناك رابط حميمي وعميق بين الحب والموت، وإلا لماذا نجد أشهر قصص الحب تنتهي بموت البطل، أو حبيبته، أو كلاهما»؟

مطر تشرين الأول
بعد أن أودع وجهها قمر دمشق، أخذ يجوب الرصيف منتظراً موعد انطلاق الحافلة التي ستقل «نجمة» إلى مدينتها.
طوال فترة إجازته السنوية المنقضية للتو، والتي أمضياها معاً، إجازته التي يخص بها مدينة الياسمين على مدى سنوات عقود غربته عنها، ودّعته وصعدت إلى مقعدها، وبينما تراقبه منتظراً، داهمها شعور مريب أخذ يعتصر روحها، أمعنت النظر وإذ به يمسح على عينيه دموعاً لم تنهرها قوته أو تمنعها رجولته، فكرت لوهلة أن المارة وركاب الحافلة قد ينتبهون لـ«جبل» يبكي، وعهدهم أن «الجبال» تعلّم الصمود فكيف بقاسيون؟
ولنتأكد من شعورها، أشارت إليه، وإذ بالدموع تملأ روحه وتفيض بها عيناه..
لاحقاً ستسأله لِم كان يبكي؟ فيجيبها في محادثة إلكترونية، راوده شعور وهو يودعها بأنه قد لا يراها ثانية، فبكى.. ولكنه ها هو ثانية يعود..
ويذكر أن الشاعرة ليندا سلمان إبراهيم حاصلة على إجازة في الهندسة من جامعة تشرين وشغلت منصب مدير الثقافة في طرطوس وشاركت في العديد من المهرجانات الأدبية والفعاليات الثقافية في سورية ودول عربية، حازت على جوائز عديدة محلياً وعربياً وصدر لها ست مجموعات شعرية منها (لدمشق هذا الياسمين) و(منمنمات دمشقية) وواحدة قصصية (على الجسر العتيق) كما لحن عدد من قصائدها، ولها العديد من الدراسات والقراءات الأدبية والنصوص الشعرية والمترجمة في دوريات عربية ومحلية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن