قضايا وآراء

تحد راسم لصورة المستقبل

| عبد المنعم علي عيسى

على الرغم من أنه يمكن لحظ العديد من التحديات التي برزت مؤخراً في مواجهة تسوية مفترضة للأزمة السورية وهي تجتمع في رزمة يصعب حصرها بين حدين واضحين، ومن الممكن تعداد الكثير من محتوياتها على سبيل الذكر لا الحصر، بدءاً من ملف إدلب والتقلبات التي يشهدها والتي تتراوح بين القفز والمراوحة على إيقاع «ضامني» أستانا وما يحتوي عليه ذلك الملف من تحديات كبرى من نوع وجود تنظيمات متطرفة مثل «جبهة النصرة» و«حراس الدين» و«الحزب التركستاني الإسلامي» والمصائر التي ستؤول إليها، ثم مروراً بالتدخل الأميركي الذي اتخذ طابع المباشرة مؤخراً بعد توقيع اتفاق «المنطقة الآمنة» الذي دخل مرحلة الاختبار الأولي يوم الأحد الماضي، على حين المؤشرات ترجح إمكان إقدام أنقرة على إنشاء تلك المنطقة وحدها ودون توافق مع الأميركيين، وفيه يمكن لحظ حالة انزياح أميركية عن تثبيت مواقع الحليف الكردي لمصلحة التمكين لوجود أميركي دائم بدت ملامحه تتجه نحو أن يتمركز في مدينة الحسكة وهو ما يمكن تأكيده عبر تصريح رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة جوزيف دانفور يوم السبت الماضي الذي قال فيه: «إن بلاده تحتاج إلى تدريب 50-60 ألف جندي لضبط الأمن في شمالي سورية»، ثم أضاف «ربما نكون دربنا نصف هذا العدد حتى الآن»، كما تحوي الرزمة أيضاً التوتر ما بين إيران وإسرائيل الذي اتخذ في الآونة الأخيرة طابع توسع «بيكاره» ليمتد إلى ساحات أبعد مدى وقد يصل بعد الساحات السورية والعراقية واللبنانية التي وصل إليها إلى الساحة اليمنية التي قد يصل إليها قريباً بدفع سعودي، وذاك مؤشر كبير على توجه أميركي لمسته تل أبيب نحو استبعاد خيار النار في التعاطي مع الملف الإيراني، ثم وصولاً إلى هشاشة التسوية السياسية التي تم التوصل إليها العام 2018 في الجنوب السوري وهذي الأخيرة تبدي ميلاً بات واضحاً منذ أشهر لعودة التوتر بفعل تداخل عوامل عدة لعل أبرزها انسداد آفاق التسوية الفلسطينية الإسرائيلية أو ما يسمى «صفقة القرن»، التي يمكن اعتبار استقالة مهندسها جيسون غرينبلات يوم الخميس الماضي أبرز تجليات ذلك الانسداد، بعدما ذكر أنها، أي الاستقالة، تأتي بعد إعلان الرئيس ترامب عن الشق السياسي لتلك الصفقة.
من بين كل تلك التحديات برز تحد آخر بدا الأكثر إلحاحاً مؤخراً، وهو على درجة عالية من الأهمية، ويزيد من هذي الأخيرة أن هناك اليوم مساعي حثيثة لإحداث اختراق جوهري فيه، ففي جلسة مجلس الأمن الخاصة بسورية يوم 29 آب المنصرم قدم المبعوث الأممي غير بيدرسون إحاطة خلص في نهايتها إلى أن «اللجنة الدستورية» قد تشهد ولادتها قبيل نهاية شهر أيلول الجاري.
تفاؤل المبعوث الأممي دونه عقبات كبرى على الرغم من أنه يستند في ذلك بالتأكيد إلى «أضواء» خضر تراكمت في جعبته بعيد زياراته لكل من طهران وأنقرة وواشنطن التي سيزورها أيضاً قريباً، إلا أن ضوءها الأخضر مضمون بالنسبة إليه قياساً إلى الإحاطة التي قدمها في جلسة مجلس الأمن سابقة الذكر.
ما قاله بيدرسون أثناء إحاطته أنه تم الاتفاق على تعيين رئيسين للجنة الدستورية واحد للحكومة السورية وآخر للمعارضة، وأن مشكلة «الأسماء الستة» قد حلت ولم يبق منها سوى الشيء البسيط للوصول إلى توافق تام حولها، وعلى الرغم من أن هذا المعلن يمكن أن يمثل تقدماً مهماً قياساً إلى نقاط الخلاف التي ما انفكت تتسع وتتراكم منذ أن جرى الإعلان عن اتفاق تشكيل اللجنة في مؤتمر سوتشي 30 كانون الثاني 2018 زمن المبعوث الأممي السابق ستيفان دي ميستورا، إلا أن كل ما أعلنه بيدرسون من «تقدم» في المرحلة القريبة الماضية يظل رهينة المواقف المضمرة للعديد من الدول الفاعلة في الأزمة السورية، ولا يبدو أن تلك المواقف قد اقتربت من حالة الكشف عن المضمر أو الانتقال إلى حالة اللعب «على المكشوف» تبعاً لملفات عديدة لم ترسُ بعد على توافقات نهائية، والأهم من ذلك هو أن بيدرسون لا يبدو «أميناً» في نقل خفايا وتفاصيل مباحثاته التي يجربها في العديد من العواصم الفاعلة في الأزمة السورية، ولربما من حق السوريين أن تتزايد لديهم الشكوك بعد طرح هذا الأخير لفكرة إنشاء لجنة اتصال دولية للجمع بين ضامني مسار أستانا الثلاث روسيا وإيران وتركيا وبين المجموعة المصغرة التي تضم إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا كلاً من الأردن والسعودية ومصر، هذا الطرح يهدف إلى موازنة ثقل أستانا بآخر غربي، ونحن هنا لا نقول إن القطيعة بين هؤلاء هي المطلوبة، لكن التواصل مستمر ولم ينقطع في أي مرحلة من المراحل وعلى مختلف المستويات، فلماذا إذاً جاءت تلك الدعوة؟ والراجح أن هدفها هو إنشاء جسم سياسي فاعل، وضاغط في أنه يمكن أن يؤدي إلى كبح جماح موسكو الرامي إلى إنهاء الأزمة السورية التي تمثل جرحاً نازفاً في محاولاتها الناهضة، والراجح أيضاً هو أن هذا التوجه الجديد لدى المبعوث الأمني قد نمى لديه بعد قراءة أوصلته إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يبدو عاجزاً الآن عن التخلي عن «رافعته» الروسية خصوصاً في ظل حصول تصدعات من النوع المؤثر في علاقته بواشنطن التي شهدت مؤخراً فصلاً متقدماً عبر قول لأردوغان أمام مؤيدين له في مقر حزب العدالة والتنمية يوم 5 أيلول الجاري: «مصممون على البدء فعلياً بإنشاء المنطقة الآمنة شرق الفرات في سورية وفق الطريقة التي نريدها حتى الأسبوع الأخير من شهر أيلول»، وهذا الفصل قابل للتبرعم سريعاً ذلك في ظل ضغوط أميركية يمكن لحظها عبر حراك يشهده الكونغرس الأميركي ما زال حتى الآن في طور ضعيف لأنه يتلمس تبلور التطورات، وفي خلاله تشير تقارير إلى مناقشات يجريها هذا الأخير حول إمكان إقرار قوانين عقابية ضد أنقرة على خلفية إدخالها لمنظومة إس 400 الدفاعية إلى فضاءات حلف الناتو.
هناك إلى اليوم خلافات كبرى حول انطلاق عمل اللجنة الدستورية لعل أبرزها عدم الاتفاق فيما إذا كانت هذه اللجنة سوف تعمل على إنجاز أو صوغ دستور جديد، أم إن عملها سينحصر في إحداث تعديلات على الدستور السوري المقر في العام 2012، وهذي النقطة ستكون محل خلاف سيكون بيدرسون على موعد معه في دمشق التي سيزورها في وقت لاحق وهو يبدو مدركاً أكثر من سلفه أن فيها «مربط الفرس» ولن يكون بمقدوره السير قدماً في مهمته ما لم يمتلك ضوء «البرجكتور» السوري الذي يفوق بالتأكيد كل منابع الضوء الأخرى التي يرى أنها ملك يديه.
من الخلافات التي لم يتم التوصل إلى توافق حولها أيضاً هو كيفية الإشارة إلى القرار الأممي ذي الرقم 2254 في مرجعيات العمل الذي ستتبناه اللجنة التي لن يكون الإعلان عن تشكيلها سوى الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل.
نحن لا نقول هذا الكلام كنوع من التشاؤم أو لأن آفاق عمل اللجنة ستكون مسدودة، بل نقوله لان دمشق ستكون أمام معركة مصيرية عنوانها العريض هو اللجنة الدستورية، فما سترسمه هذي الأخيرة سيكون محدداً بطريقة حاسمة لصورة سورية المستقبل، وعبره أيضاً سيتحدد الدور الذي ستضطلع به في المرحلة المقبلة، ومن المؤكد أن دمشق تتلمس في السر والعلن ملامح مسعى غربي لإنشاء كيان «سوري حيادي» منزوع المخالب أو هو غير قادر على التأثير في محيطه، وهذا أمر يعني في معطياته القريبة حكماً بذبول الكيان وتلاشيه إذا ما قدر لذلك المسعى أن يجد مراميه داخل سطور الدستور الذي يفترض أن تنتجه تلك اللجنة، فكل سطر، بل كل حرف، سيكون ريشة عريضة ترسم خطاً، أو تمحو آخر، في سجلات التاريخ والجغرافيا السوريين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن