لمصر قبل أن يفوت الأوان
عبد المنعم علي عيسى :
لم تنفك المؤشرات الصادرة عن القاهرة تتوالى لتأخذ بعقولنا نحو توقع تحول حقيقي قريب الحدوث على طريق دمشق القاهرة، وفي هذا السياق يمكن رصد كم كبير من تلك المؤشرات التي برز في الآونة الأخيرة مؤشران اثنان مهمان منها: أولهما أن القاهرة بحسب أحد قادة المعارضة السورية كانت قد منعت في 16/9/2015 الائتلاف السوري المعارض من عقد مؤتمر صحفي على أراضيها، وثانيهما تلك الافتتاحية الفاقعة التي خرجت بها جريدة الأهرام المصرية 16/9/2015 المقربة من دوائر القرار المصرية وكانت بعنوان أي جنون أن تزعم أطراف متورطة في تدمير أمة بأنها تريد إنقاذها من حكامها لا يمكن لدوائر القرار السياسية المصرية أن تكون بعيدة عن قفزة تصعيدية كهذه الأخيرة، فأن تعمد صحيفة سياسية مهمة إلى نسف الذرائع التي ما انفك يجترها الحليف السعودي على مدار الأعوام السابقة، فإن ذلك يجب أن يحسب على أنه قد يكون نقلة نوعية جديدة في تموضع القاهرة السياسي إقليمياً.
ليس من الصعب تفهم الخيارات المصرية ما بعد 3/7/2014 حينما أسقط الشارع المصري حكم الإخوان المسلمين والتي تولد عنها حالة توازن داخلية غاية في الضعف والهشاشة لم يكن ممكناً لها أن تستمر إلا بوجود رافعة اقتصادية كبيرة وهو ما تلمسته القاهرة في الرياض ككيس نقود لا ينفد.
كما لم يكن من الصعب أيضاً تلمس الآثار التي تركتها حالة الاستناد المالية وتداعياتها التي كانت باهظة الثمن في العديد من محطاتها لتصل إلى عمق الثوابت الوطنية الراسخة على مر المراحل، ومنها تلك الحالة التي وضع فيها الجيش المصري عشية انطلاق عاصفة الحزم السعودية تجاه اليمن 25/3/2015 التي ضاع فيها بين نوبل (توكّل كرمان) الصحفية اليمنية الحائزة نوبل للسلام التي كانت قد هددت في آذار المنصرم الحوثيين بجيش كان قد عبر قناة السويس 6 تشرين الأول 1973، وبورصة ريم العنزي الصحفية السعودية التي أخذت على عاتقها أن تمسك بمسطرة الأسعار التي تحدد ثمن القتلى في الجيوش المشاركة مع آل سعود في عدوانهم على اليمن وقد قالت: إن القتيل المصري هو الأرخص بين الجيوش ولا يتعدى ثمنه خمسة آلاف دولار على حين إن القتيل السعودي والإماراتي يصل ثمنه إلى خمسمئة ألف دولار.
وضعت الحالة السابقة الجيش المصري العظيم في ساحة معركة حلفاؤه فيها هم آل سعود وآل ثاني وخصومه فيها هم فقراء اليمن ومعدموه، وقد قيل لجنوده إن خط بارليف الحوثيين ربما هو أقسى وأشد صعوبة من بارليف الإسرائيليين ليتبين فيما بعد أن ذلك الخط (بارليف الحوثيين) لم يكن سوى أكياس الطحين المخزنة مخافة الجوع في خط دفاعه الأول ولحم الفقراء والأطفال في خط دفاعه الأخير.
وفي الآن ذاته كان من الصعب أن نتفهم كيف أن القاهرة لم يفضْ بها الكيل تجاه الممارسات السعودية الرامية إلى تدمير الدولة السورية، صحيح أن سياسات الدول تقررها المصالح أولاً ولا تقررها حالات بعض الممارسات التي لا تمس بالأمن القومي للبلاد، إلا أن الأمر هنا يتوقف على الرؤيا السياسية التي يتبناها صانع القرار السياسي المصري الذي لم ير (مثلاً) أن أزمة مياه النيل التي أثيرت مطلع الربيع المنصرم مسألة تخص الأمن القومي المصري على الرغم من أن مسؤولاً مصرياً كان قد صرح في 25/3/2015: «إن الكمية التي تحصل عليها مصر من مياه النيل لا تكفي لسد حاجات المصريين» وهو أمر لم يحدث في أكثر المراحل ضعفاً في تاريخ مصر الحديث وما كان له أن يحدث لولا الوضع الذي كبلت القاهرة فيه نفسها وفيه ابتعد المصريون عن قراءة حقائق التاريخ والجغرافيا في المنطقة بشكل سليم، فنيل مصر يهب الحياة لشعب وادي النيل، وبلاد الشام تهب الأمن والاستقرار لذلك الشعب وذاك الوادي.
كيف يمكن (مثلاً) تجاهل أن الجغرافيا السورية كانت مفتاحية على مر المراحل للأمن المصري وحينما سقطت دمشق بيد الرومان (64 ق.م) سرعان ما آلت القاهرة إلى المآل نفسه لتسقط في العام (31 ق.م) أي بعد 33 سنة وهي فترة قصيرة بمقياس تلك الأيام قياساً إلى حركة الجيوش وتسليحها في تلك المرحلة، كما أن سقوطها (سقوط دمشق) على يد سليم الأول في مرج دابق 1516م قد أدى إلى سقوط القاهرة بعد أقل من عام على ذلك التاريخ (1517م) على حين أدى ميل دمشق باتجاه نظام عبد الناصر إلى حصار حلف بغداد (1955 – 1958) كمقدمة لسقوطه، كما كانت الوحدة السورية المصرية في 22 شباط 1958 هي السبب المباشر في سقوط نوري السعيد في بغداد 14 تموز 1958 وكذلك إلى سقوط عدنان مندريس في أنقرة 27 أيار 1960.
عرضت قناة تركية (إخوانية) في آذار المنصرم تسجيلات صوتية لأحاديث مسربة بين الرئيس السيسي وبعض مساعديه وكبار ضباطه، وهي على الرغم من أنها تسيء بدرجة كبيرة إلى الزعامات الخليجية الذين تصورهم على أنهم دمى حمقاء لا بأس في ابتزازها مالياً إلا أن الأيادي السعودية لم تكن ببعيدة عنها ومصلحتها هنا تحققت عبر أمرين اثنين أولهما: أن التسريبات تظهر نظام الرئيس السيسي على أنه غاية في الضعف والهشاشة ولديه العديد من المشكلات الداخلية التي تجعله غير مستقر بعكس ما تقول وسائل إعلامه، وثانيهما: إظهار سلوكيات المسؤولين المصريين بمن فيهم رأس الهرم على أنهم جاحدون لا يتوانون عن التنكر لمن يقدم لهم المساعدة لهم وللشعب المصري.
يومها لم تخرج الأقلام المصرية لتقول (مثلاً) إن المساعدات التي تقدمها الرياض ليست بهذه «الخيرية» وهي لا تعدو أن تكون تثبيتاً لمواقع سعودية مهتزة في المنطقة بعد التمكن من قتل حجرة «الداما» المصرية وهو ما يشير إلى أن الأجواء السائدة آنذاك في غرف صناعة القرار السياسي المصري لم تكن مهيأة لأن تتجه نحو تصعيد باتجاه الرياض يبدو أن القاهرة قد التقطت متغيرات المواقف الغربية (بما فيها الأميركية) حتى أمكن أن تضع رجليها في ذلك المسار الذي تمثل افتتاحية الأهرام 16/9/2015 مؤشراً إلى وجود قرار بانطلاقه.
أدت حالات الاضطراب القصوى التي اجتاحت المنطقة –ومصر أيضاً- إلى حالة ارتباك وفقدان مؤقت للبوصلة التي تحدد «الشمال» الأكيد، وظهر ذلك في قاعدة سياسية تم تداولها في الآونة الأخيرة فيما يخص داعش «التي لا تمثل خطراً مستوطناً» على اعتبار أن الشارع المصري يتبنى مذهب الصوفية النقيض تماماً لداعش، وكأن المخاطر كلها تجسدت في داعش وحدها، أين الوهابية إذاً؟