قضايا وآراء

الجذور إذ تزهر

| عبد المنعم علي عيسى

على الرغم من مضي نصف قرن ونيف على هزيمة حزيران 1967، وعلى الرغم مما سال من الحبر المكتوب والمقال في تشريحها وما الذي قاد إليها، على الرغم من كل ذلك، فإنها لا تزال حدثاً مغرياً يجري تناوله بمناسبة، ومن دونها، للمرور إلى فضاءات بحث جديدة كلما لاحت في الأفق وثيقة، أو حدث، أو رؤيا، تبرز ما بين الشقوق يمكن أن تفيد أو هي تقدم إضافة شيء جديد لرسم صورة بانورامية تختلف، أو تعزز، سابقاتها.
لسنا هنا بوارد الوقوف أمام حالة تشخيصية للمقدمات التي قادت نحو الحدث، لكن للوقوف على أبرز مخرجاته التي أفرزها على المدى الطويل، فالحرب- الهزيمة أدت إلى إنتاج ثقافة خاصة بها بات من الجائز لنا تسميتها باسمها، وأخطر ما فيها هو أنها أدت إلى تهتك فظيع في نسيج الفكر القومي الذي شكل على امتداد مرحلتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي محاولة النهوض الأساسية التي عرفتها المنطقة عبر نزوع شرائح واسعة فيه نحو حالة ليبرالية مفرطة قادت نحو تأسيس قواعد فكرية اجتماعية للتحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة على نحو ما شهدناه في العراق 2003 وفي سورية 2011-2019 عبر ظاهرة «الجلبية» العراقية التي كانت طبعتها السورية أكثر فظاعة من سابقتها، وقد كان لهذا كله منعكسات كبرى على المستويات كافة بدءاً ببناء الشخصية العربية، ومروراً بطبيعة العلاقة القائمة بين الأنظمة العربية وبين شعوبها، ثم وصولاً إلى الإرادة العربية التي أصيبت بشرخ بدا من الصعب الشفاء منه.
لم تكن نتائج الحرب لوحدها هي التي أدت إلى السياقات السابقة فحسب، وإنما كانت هناك عوامل عدة كان في الذروة منها الاستثمار الإسرائيلي للهزيمة لإنتاج عوامل كفيلة بترسيخها واقعاً يصعب الخروج منه، كان الترسيخ لثقافة الهزيمة يهدف إلى إرساء حال من القطيعة مع الجذور ومع التاريخ، وفي الأتون طمس آلاف الحقائق الذي من شأنه أن يؤدي إلى كسر «أبدي» لحالة النهضة العربية التي مثّل مشروع القومية العربية وجهها الأبرز.
في أتون الحرب، وما بعدها، نشرت صحف إسرائيلية، ونقلت عنها صحف ووكالات عالمية كبرى واسعة الانتشار، صوراً لأحذية جنود مصريين منغرسة في رمال سيناء، والصورة تريد القول إن الجندي المصري قد عمل، إبان سعيه للهرب، إلى التخفف من أعباء العتاد ولباس الميدان حتى الحذاء كان عبئا ثقيلاً في مسعاه ذاك، ثم راحت وسائل الإعلام الإسرائيلية ترسخ لمفهوم «القلعة» الإسرائيلية الحصينة التي سيكون التفكير باقتحامها ضرباً من الجنون، وفي الغضون كان التركيز على أسطورة خط بارليف، الذي ابتناه رئيس الأركان الإسرائيلي حاييم بارليف، واستحالة اختراقه، وفي سياق آخر متصل جرى التركيز على القدرة الإسرائيلية الخارقة في الولوج إلى عمق المجتمعات العربية بل وسطحها السياسي الأعلى، ليجري تضخيم حكاية ايلي كوهين بطريقة عجيبة أعطت في حينها نتائج خطيرة على الضفة العربية، على الرغم من أن كوهين لم يكن سوى جاسوس وضيع تحوي سيرته في الجاسوسية عشرات الأخطاء التي لا يرتكبها هواة، ثم أن جل مصادره كانت من الصحافة ومن أشخاص لا يزيد تعدادهم على الثلاثة كانوا أقرباء، أو أصدقاء، لمسؤولين من الصف الثالث إن لم يكن ابعد.
لم يكن الخروج من فضاءات الهزيمة أمراً يسيراً والمحاولات التي جرت، على الرغم من تعددها، لم تكن كافية لحصول ذلك الخروج على المستويين الشعبي والسياسي، ناهيك عن أن المحطات التي شهدتها تلك المحاولات لم تستطع، على أهميتها، انتزاع الانكفاءة التي عاشتها الذات العربية في مواجهتها لأعتى هجمة تعرضت لها في خلال القرنين الماضي والحاضر، فحرب تشرين 1973 على الرغم من أنها كسرت حاجز الخوف والرهبة إلا أن نتائجها ضاعت في ردهات السياسة، ولربما كان أبرز من وصفها، مقارنة بحرب حزيران، هو الراحل محمد حسنين هيكل عندما قال إن السلاح في حرب حزيران لم يكن بمستوى السياسة على حين انقلبت هذه القاعدة السابقة لتصبح السياسة هي التي ليست بمستوى السلاح في حرب تشرين، ثم كانت محطة أيار 2000 التي شهدت تحرير الجنوب اللبناني، ومحطة تموز 2006 التي وضعت القوة الإسرائيلية في وضعية الكسل الوظيفي الأكيد.
ما بعد هذا الحدث الأخير كانت هناك تراسيم ناظمة، وكابحة في آن، للاستثمار الإسرائيلي في ميادين النار، وكذا في ميادين حروب الثقافة حيث لم يعد ممكناً تسويق ما كان ممكناً تسويقه من قبل، والمؤكد أن تل أبيب قد ارتأت أن استمرار تلك التراسيم لزمن مديد سوف يمنحها مسحة من القداسة الخطرة إن هي تمادت في ديمومتها، ولذا فإن حدث الطائرتين المسيرتين اللتين استهدفتا الضاحية الجنوبية يوم 24 حزيران الماضي كان يهدف من الناحية النفسية إلى إحداث قطيعة مع رتم مرحلة امتدت إلى ثلاثة عشر عاماً متواصلة، الأمر الذي يفسر ما قاله الأمين العام لحزب اللـه في اليوم التالي مباشرة والذي كان يحمل إيماءً بأن محاولة تل أبيب لنسف تلك التراسيم سوف يؤدي إلى إنتاج أخرى بديلة هي أخطر من السابقة على الضفة الإسرائيلية، كان رسوخ «مخرجات تموز» في الشارع واضحاً وهو ينافي حلماً يمتد إلى عقود وعقود، وما جرى بعد ذلك الخطاب من ظواهر يؤكد هذه الصورة ويدفع بالحلم إلى مزيد من التوغل وامتلاك الواقع، ومن الممكن توصيفه على أنه كان خطوة لربما هي الأهم على امتداد 52 عاماً من عمر «ثقافة الهزيمة» فبعد ساعات من دوي خطاب نصر اللـه أقام أهل قرية «العديسة» الحدودية عرساً في العراء كناية عن عدم تهيب الحرب، ثم انتشر هاشتاغ «خلي عينك ع الحدود» كما النار في الهشيم، قبل أن يقوم مراسل قناة المنار علي شعيب بنشر صور لدمى على هيئة جنود جرى وضعها في الآليات العسكرية الإسرائيلية المرابطة على الحدود مع لبنان، وهي تؤكد أن ما من شيء تغير طالما أن الجوهر باق فالدمى حلت محل الدمى.
في الميزان يمكن القول إن صورة الدمى سابقة الذكر تعادل تماماً صورة أحذية الجنود المنغرسة في الرمال التي أثبتت حادثة العبور الأسطورية يوم 6 تشرين أول 1973 أن من حقنا التشكيك بها، لكن ما جرى بعد صورة الدمى في «افيميم» يثبت أن هناك حالة أكبر لم نتمكن بعد من رصدها كما ينبغي أو إخراجها للعلن كما يجب.
أقيمت مستوطنة «افيميم» العام 1958 على أنقاض قرية «صالحة» أو صلحا الفلسطينية بعدما أبيدت هذه الأخيرة خلال عملية «حيرام» التي نفذتها العصابات الصهيونية في تشرين الأول من عام 1948 بهدف السيطرة على كامل الجليل، والجدير ذكره هنا أن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للخليل في 4 أيلول الجاري والتي كانت الأولى من نوعها، وإعلانه أن الخليل سيبقى تحت السيطرة الإسرائيلية للأبد كانت ذات رمزية خاصة تريد التأكيد على تواصلية عملية «حيرام» وتجذرها، وبالعودة إلى السياق السابق نقول إنه وبعد قيام تلك العصابات بمجزرة «صلحا» التي راح ضحيتها قرابة مئة من مواطنيها فر الباقون إلى قرية مارون الراس اللبنانية في أغلبيتهم فيما أقلية منهم فرت إلى قرية البازورية التي ستشهد بعد عامين من قيام «افيميم» ولادة «حسن نصر الله» الذي سيقرر أخيراً إيقاظ إرث صالحة على طريقته.
هي العودة إلى الجذور إذا، وهذي الأخيرة إذا ما أزهرت أعطت أجمل أنواع الزهور وأسماها.
الأخطر بالنسبة إلى تل أبيب هو أن ثقافة الهزيمة بدأت تتلاشى أو هي سائرة نحو الأفول في الذات العربية، حتى إذا ما أذنت شمسها بالمغيب تماماً سيكون هناك بالتأكيد مشهد آخر وأحاديث أخرى نتداولها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن