من دفتر الوطن

أسرار رسمية

| حسن م. يوسف

لطالما قلت بثقةٍ في مواقف كثيرة، في الحياة وعلى الورق: «إن الإنجليز مثل البرد سبب كل علة». غير أن قصة الإنجليزية «كاثرين غَونْ: الجاسوسة التي حاولت وقف الحرب على العراق» جعلتني أدرك أن «التعميم هو لغة الحمقى» حقاً.
خلاصة القصة هو أن حكومة بلير في عام 2003 كانت مهددة بحجب الثقة عنها في مجلس العموم. لأن الإنجليز والأميركان فشلوا في الحصول على قرار ثانٍ من مجلس الأمن في الأمم المتحدة، يعطيهم غطاء قانونياً للحرب على العراق. وقد كانت الحرب ضرورية لمساعدة بلير وحكومته على الصمود.
أما مصدر الخطر الذي كان يهدد بلير وائتلاف غزو العراق فهو مترجمة شابة تدعى كاثرين غون. كانت قد قامت بتسريب رسالة بريد إلكتروني سرية كشفت من خلالها ما وصف في حينه بأنه حملة غير قانونية و«حيل قذرة» لتمرير تصويت جديد للأمم المتحدة لمصلحة الحرب.
تقول المترجمة كاثرين غون إنها لم تكن تبحث عن الاستشهاد ولم تكن تبحث عن أدلة لإيقاف الحرب، كل ما هنالك أن بريداً إلكترونياً وقع بين يديها أثناء قيامها بعمل روتيني في مركز الاتصالات الحكومية التابع لوكالة التجسس الإلكترونية البريطانية في شلتنهام.
نشأت كاثرين في تايوان – لذلك كانت تتقن لغة الماندرين- وبعد أن درست في اليابان، عادت إلى بريطانيا. كانت تبحث عن عمل ما عندما رأت في إحدى الجرائد إعلانا للعمل كمترجمة في مركز للاتصالات الحكومية، فبدا لها أنه قد يكون أكثر إثارة للاهتمام من العمل في إحدى شركات الاستيراد والتصدير.
بحكم عملها رأت كاثرين غون صور الإبادة السهلة التي قامت بها قوات التحالف ضد الجيش العراقي على طريق الموت السريع وهو عائد من الكويت، خلال حرب الخليج الأولى عام 1991، مما أحدث في نفسها فزعاً متزايداً، فقد كان ذلك الطريق مملوءاً بالعربات المحترقة والأجساد المتفحمة. وقد تزايدت مخاوفها عندما أرسلها مركز الاتصالات الحكومية إلى سان دييغو لحضور مؤتمر، ودُعيت إلى حاملة طائرات أميركية كانت على وشك المغادرة إلى الخليج. أدركت كاثرين أن قرار الذهاب إلى الحرب قد تم اتخاذه بالفعل، وأن كل التحركات الدبلوماسية المحمومة لم تكن سوى تمثيلية.
كانت أميركا تحاول إقناع فرنسا وروسيا بالامتناع عن التصويت على أمل تمرير القرار من خلال كسب أصوات الدول ذات العضوية المؤقتة في المجلس، مثل أنغولا وبلغاريا وشيلي والمكسيك. في تلك الأثناء كانت كاثرين غون تعمل على جهاز الكمبيوتر الخاص بها في مركز الاتصالات الحكومية عندما وصلتها رسالة بريد إلكتروني من فرانك كوزا، رئيس أركان قسم «الأهداف الإقليمية» في وكالة الأمن القومي الأميركية. لم تكن الرسالة موجهة لها، بل لشخص آخر، لكنها وُزِّعت على الجميع في قسمها. في تلك الوثيقة يطلب الأميركان من مركز المعلومات البريطاني لا أن يتجسس على السلوك السياسي لممثلي الدول في الأمم المتحدة وحسب، بل يطلب بوضوح وصف ممارساتهم القذرة بهدف ابتزازهم من خلالها، وقد أغضب هذا الأمر كاثرين لأن الأميركان يطلبون من مكتبها القيام بعملية «غير قانونية»! فقامت بتسريب الرسالة، والتي نشرتها جريدة الأوبزرفر على صفحتها الأولى تحت عنوان «كشف حيل أميركية قذرة للفوز بالتصويت على حرب العراق».
في عام 2008 صدر في أميركا كتاب عن كاثرين بقلم مارسيا ميتشل وتوماس ميتشل، قدم له الكاتب الناشط ضد الحرب نورمان سلومون. وقد كان الكتاب بعنوان: «الجاسوسة التي حاولت إيقاف الحرب». وقد تعاونت مؤخراً شركتان بريطانية وأميركية في إنتاج فيلم سينمائي عن ذلك الكتاب بعنوان «أسرار رسمية» من إخراج غافن هود وبطولة كيرا نايتلي ومات سميث. وقد بدأ عرضه في أميركا أواسط الشهر الماضي.
صحيح أن الفعل الشجاع الذي قامت به كاثرين لم يمنع وقوع الحرب، لكنه فضح من يقفون وراءها وهذا دليل على صحة مقولة أستاذنا المفكر أنطون مقدسي: «كل يأس من الإنسان خطأ لا يغتفر».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن