ثقافة وفن

الفنّان التشكيلي بولس سركو: الشبه بين شكل المرأة وشكل الجرة يعود لطقوس أسطورية 

| ثناء خضر السالم

يحضر الأبيض بنقائه وصفائه في لوحاته بطريقة تشدّ المتلقّي ولاسيّما حين يستخدمه في لوحات الأحصنة. مفردات متعدّدة نقرؤها في لوحاته (البحر- الجرار- أوغاريت- القوارب- الغروب)، والقاسم المشترك بين هذه المفردات جميعها هو المرأة التي تحضر بقوة، بكامل أنوثتها وخصبها. نجد لديه لوحات انطباعية، لكن سمة تجربته الفنية هي المراوحة بين أقصى الواقعية وأقصى التجريد، مع محاولاته الدائبة المزاوجة بينهما في العمل الفني، بغية تحقيق رؤيته الخاصة للفن التشكيلي. مع الفنان التشكيلي بولس سركو كان لي هذا الحوار:

من خلال اطّلاعي على تجربتك الفنية عموماً لاحظت وجود عدة مدارس تشكيلية، الواقعية والانطباعية والسريالية والتجريدية، هل المسألة مسألة تدرج؟
خلال التجربة التشكيلية التي مررت بها كنت أجنح أحياناً إلى هذه المدرسة أو تلك، ولكنني في المرحلة الأخيرة اعتمدت على المزج بين مدارس مختلفة؛ لأن المهم بالنسبة لي هو أن تصل الرسالة التي يتضمنها العمل الفني إلى المتلقي بأبسط ما يمكن من الوسائل، وليس المهم نوع المدرسة ما دمتُ أستطيع معالجة هذا المزج بطريقة غير متكلفة ودون المساس بالقيم البصرية التي تتطلبها حساسية إخراج العمل، وكذلك حساسية تلقّيه، فالمُشاهد لا يشعر بالتناقض حين يتأمّل لوحتي التي يتضمّن تكوينها أكثر من مدرسة، فجمالياتها تشغل ذهنه وتطلق مخيلته معها، ويبحث فيها عن معاني تلك الومضات القادمة من الذاكرة الجمعية.

تستند إلى الحضارة القديمة في أعمالك، كما في لوحة أوغاريت. ما الرسالة التي تريد إيصالها؟
الرسالة يمكن قراءتها في تلك اللوحة بالذات، فهي تختصر تجربة طويلة، هي عبارة عن تكوين بسيط عناصره: بوابة أوغاريت في الخلفية مع ملامح جرة تحتوي على كنز متطاير وهو حروف من الأبجدية الأوغاريتية، إذا حاول أحد ما ترجمتها فسيكتشف معاني كلمات عربية مثل الحب والسلام والعدالة، أما النورس الأبيض فيبدو كأنه ينشر هذه الرسالة في العالم، أما مسألة الاستناد إلى الحضارة القديمة فتلك قصة يجب عليّ الاعتراف بها؛ وذلك لأنني تقدمي من حيث تفكيري السياسي، ما يدفع للتساؤل عن تناقض صارخ بين توجّهين، هل بولس السياسي هو نفسه بولس التشكيلي؟ وهو سؤال محق ومهم.
في العام 1991 سقطت أنظمة الكتلة الشرقية وبدأت على الفور تحلّ على العالم ثقافة أحادية أميركية مهيمنة بلا منازع، ظاهرها العام الحريات والحقوق المدنية والفرد وباطنها رجعية مطلقة، إحياء لفكر ما قبل الأنوار، قيم تراثية دينية وتشكيك بالعلمانية وحرب شرسة عليها وعلى مجمل فكر الأنوار والتقدم، والفن لم يكن بعيداً عن هذا الانقلاب بل إنني لا أكشف سرا لو قلت إن الفن التشكيلي كان الأسبق في التأثر وإظهار علامات التغيير الجديد من خلال الخطاب الذي ساد عقد التسعينيات من القرن العشرين (حرية الفن والفنان) مقترناً بالعودة للفن الديني الإسلامي والمسيحي، ردده فنانونا بلا تدقيق، كنت مندهشا ومتسائلا على الدوام.

من الذي كان يقمع التشكيل السوري؟
الواقع يقول إنه طوال زمن النهضة الجديدة للفن التشكيلي السوري منذ مطلع القرن العشرين لم تتدخل السياسة في توجهات هذا الفن وكان الفنان السوري حراً على الدوام ولكن التدقيق في التاريخ الأعمق للفن التشكيلي السوري يكشف لنا أن السلطات الدينية هي التي احتكرت الفن التشكيلي ومسخته وقلصت وجوده تقريباً إلى الصفر في الحياة الاجتماعية وبدا سجيناً هزيلاً على جدران المعابد لذلك كنت أنظر إلى الخطاب السائد حول حرية الفن المقترن بالعودة إلى الماضي بازدراء في وقت صار فيه هذا الخطاب جارفاً ووحيداً ومهيمناً، ولم أكن في وارد الصدام معه وأنا في بداية صعودي فنياً كان لا بد لي من مخرج من هذا المأزق الفكري لا أطير فيه خارج السرب ولا أتنازل فيه عن فكري السياسي في الوقت نفسه وكان خياري الذهاب لمهد الفن السوري وأعني فنون أوغاريت لاعتماد جمالياتها كلغة تشكيلية أطرح من خلالها مواضيع إنسانية تلائم تفكيري، فإذا كان لا بد من التركيز على هوية سورية في زمن الغزو الثقافي للعولمة في تقديري فإن هذا الخيار الإنساني كما أعتقد كان الأقل ضرراً بين خيارات رجعية قد تكون لعبت أدواراً ما في استنهاض الطائفية.

يبدو في أعمالك أن هناك رابطاً بين الجرار الفخارية والجسد الأنثوي؟
هناك رابط شكلاني جمالي على خلفية أسطورية، وهذا تفصيل من القصة السابقة فخلال بحثي في فنون أوغاريت عند الأستاذ الراحل جبرائيل سعادة أوقفتني عشرات الصفحات من الموسوعة الفرنسية الخاصة بأوغاريت التي كانت في مكتبته، تظهر أشكال الجرار المكتشفة كافة. ولفتتني طريقة تزيينها وبعثت في ذاكرتي مشهد النساء حاملات الجرار في القرية حين لم تكن مواسير الماء قد دخلت إلى كل بيت، وبقي منذ الصغر سرّ الرابط بين الجرّة والمرأة يحيّرني إلى أن فهمت من الأستاذ جبرائيل أن الشّبه بين شكل الجرّة وشكل المرأة يعود لطقوس دينية أسطورية فقد صنعوا الجرّة على شكل أنثى كي يتقدّس الماء في داخلها كونها النهر الأبدي، وهو يعني الحياة البشرية المتدفقة يمر عبر جسد المرأة، فكرة جمالية أسطورية إنسانية في غاية الرّوعة تعبّر عن المساواة في المكانة الإلهية قبل حلول زمن ذكورية الإله المطلقة وإضفاء نوع من الشيطنة على المرأة في قصة الخلق التوراتية التي بدت رجعية بالمقارنة مع ما سبقها.

لم يكن الطابع الهوياتي هاجس أعمالك على الدوام، تطرقت مرة إلى الأحصنة ومرة إلى الموسيقا، أسوة بتنقلك بين الواقعية والانطباعية والسريالية والتجريد، المدارس التي كأنما اختلطت جميعها في أعمالك ولكن من غير المفهوم اختلاط الموضوعات، فما علاقة الأحصنة أو الموسيقا بالعمق التراثي الأوغاريتي في أعمالك؟
سؤال مهم جداً، ولا بد من تعريف القارئ الكريم والمهتمين بقضايا التشكيل والنقاد أن البحث في التراث الفني الأوغاريتي لم يحصل بين ليلة وضحاها، لقد استغرقت العملية سنوات واستغرقت سنوات أخرى عملية إخراج ما اخترته من الفن الأوغاريتي في طابع معاصر من جهة، ويمثلني شخصياً من جهة أخرى، وفي إطار البحث والتجريب كنت أفتح على خيارات متعددة حتى وصلت إلى الصيغة التي تظهر فيها أعمالي اليوم، كل تجربة على صعيد الموضوعات وعلى صعيد التقنيات كانت خطوة على طريق الوصول للأسلوب الطاغي في أعمالي الأخيرة وقد استقرت على شاطئ البحر بعد أن امتلكت لغتها الخاصة، فاليوم الموضوعات أيضاً متعددة ولكن كلها عناصر ساحلية، صيادون، قوارب، نوارس، إلخ. مع أن الحرب على سورية فرضت نوعاً من التشويش على مشروعي وإمكانية استكماله لأنني بصراحة خَجِل من عدم قدرتي على التعبير فنيّاً عن الكارثة التي حلت ببلدنا الآن، ربما في لحظة ما تتدفق صور ما حصل، وتفرض ذاتها على وجداني، اليوم أجد نفسي شبه معطل فنياً بسبب ضرورة استكمال المشروع بعد نضوجه، وبنفس الوقت ضرورة الوفاء فنياً أيضاً لوطن يُعتدى عليه منذ أكثر من ثماني سنوات سوريتنا الحبيبة.
ما الذي يقدمه التجريد من رؤى وانطباعات؟
التجريد هو فن اختزال عناصر الواقع وتبسيطها وبناء علاقات ذهنية إبداعية لها وهو تجربة غنية جداً للفنان وخياله، ومع ذلك فالتجريد بالنسبة لشخص مثلي ليس هدفاً بحد ذاته بل هو مجرد تجربة لا بد من المرور بها في المسيرة الفنية، لكن عموماً على المتلقي ألا ينتظر تفسيراً للعلاقات القائمة داخل العمل التجريدي، فهو لا يروي قصة رمزية، ولا يتطلب حل عقدة ما إنما يمكن للمتلقي التمتع بجماليات ورؤى غير مألوفة لديه تكونت في الخيال الخصب للفنان ولهذا الأمر تأثيره الجيد على الفن بذاته وتأثيره السيئ على علاقة الفن بالمجتمع وذلك لأن نخبة فقط من الناس ترغب في التمتع بتلك الجماليات الغريبة فضلاً عن الطبيعة الخاصة بعالم التجريد التي تتعارض مع مفهوم الرسالة الفنية.

أجريت معارض داخل سورية وخارجها، بمن تثق أكثر بالجمهور العربي أم الغربي؟
المسألة لا تتعلّق بالثقة بقدر ما تتعلّق بالتقييم الموضوعي لعلاقة كلا الجمهورين بالفن التشكيلي، ووفق ذلك من الطبيعي مع تطوّر تاريخي طويل للفن التشكيلي في الغرب أن يكون الجمهور الغربي ملتصقاً بهذا الجزء من هويّته الحضارية ومن الطبيعي في المقابل ومع قطع تاريخي طويل أن يكون الجمهور العربي أقل تجاوباً مع الفن التشكيلي، ولكنّني أنظر بإيجابية في تقييم المسألة نسبياً، إذ إن قرناً ونيّفاً من عمر التصوير بالطريقة المعروفة حالياً قد خلق جمهوراً ذوّاقاً للفن التشكيلي في بلدنا، مع كل ما يحمله هذا الفن المعاصر من اغتراب مفاهيمي.

هل أثر عملك في مجلس المحافظة على إبداعك أم أضاف له بحكم معايشتك هموم النّاس؟
الحقيقة أن الحرب ومعاناتها والحصار المفروض على البلد هي التي أثّرت في كميّة الإنتاج الفنّي وليس الإبداع، أمّا بالنسبة لعملي في مجلس المحافظة فهو خطوة جديدة لخدمة الشأن العام، ولكنّني حتى قبل وجودي في المجلس كنت مهتمّاً بهذا الشأن، وعلى الرغم من أنني معروف في الوسط كفنّان تشكيلي ولكن يعدّني البعض أكثر حضوراً في الكتابة من الفن التشكيلي، فأنا أحد كتّاب المقال السياسي والفكري في مجلّة النّور السوريّة التقدّميّة، وقد صدر لي حتى الآن كتابان سياسيان عن دار ديار للنشر في تونس حول العدوان على سورية، لذلك فإن نشاطي المتنوّع لا يتعارض مع بعضه عموماً، إنني معتاد على هذا التنوّع.

هل يرتبط الفن التشكيلي كالأدب بلحظات إبداعية أم هو تحضير مسبق؟
لحظة الدفق الإبداعي خاصيّة تشمل كل المجالات، الفن بأنواعه والأدب أيضاً. ولكن يمكن الحديث عن فوارق بين المذاهب الفنيّة بخصوص طريقة نقل اللحظة الإبداعيّة بصدق وعفوية ودون تدخّل العقل في عملية تهذيب للعفوية المطلقة. وهناك من يعترض على ذلك وأنا منهم، فالعفوية مهمة جداً وكذلك الصدق في نقل اللحظة الإبداعية، ولكن فقط على المسودة الأولى التي يليها تدخّل العقل في عمليّة ترتيب وإخراج ملائم للبصر، تحكمه قواعد فنيّة أعتقد أنها لا تزول، فهي نتيجة لتراكم المعرفة الإنسانية، وهذا ما أفعله بالضبط، إذ لا أقوم بإنجاز عمل دون تحضير مسبق فكما هو الصدق مطلوب في الفن كذلك مطلوب طرح هذا الصدق بطريقة سلسة مُحبّبة تتقبّلها العين ولا تتقزّز منها.

ماذا تقول عن: الحرب، الحياة، اللوحة البيضاء، الفن التشكيلي في سورية اليوم؟
الحرب هي أخطر ما يهدّد حياة الناس وأمنهم واستقرارهم، وهي نتاج الجشع الرأسمالي وحاجة عصابة من البنك الدولي للهيمنة على ثروات العالم.
الحياة: الحياة والحرب نقيضان، الحرب موت وتدمير والحياة ولادة وبناء، الحياة متعة العيش وهي حق للإنسان ينصّ عليه القانون الدولي.
اللوحة البيضاء: تشبه الموت قبل انبعاث الخطوط واللون لتخلق حياة تضج بالحركة.
الفن التشكيلي في سوريّة اليوم: بعد تطوّرات مهمة وخطوات واثقة للفن التشكيلي السوري عبر مسيرة ما يزيد على قرن من الزمن أعتقد أنّنا بحاجة اليوم لمراجعة نقدية شاملة للمثل والقيم الجمالية، فهناك تكرار مملّ من جهة وهناك نوع من الانبهار بالتوجهات الغربية، وقد آن الأوان لنهضة تشكيليّة سوريّة غير عبثيّة تنطلق من تراث سوري غير منغلق على ذاته وغير مرض يمكن لعالم اليوم احترامه على أساس سيادي وهناك ملامح فقط نلاحظها في بعض التجارب لمثل هكذا فن تشكيلي، لذلك أتمنّى على نقاد الفن التشكيلي والمهتمين به السعي لوضع الإطار النظري لهذا التوجه الوحيد الكفيل بدفع الفن التشكيلي السوري لقفزة جديدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن