ثقافة وفن

نصف قرن من الشعر حتى وصل إلى حبيبته آسيا … محمد علي شمس الدين لـ «الوطن»: أفتقد أصدقائي الشعراء الذين رحلوا في أمسيات دمشق الجميلة

| جُمان بركات

مضى زمن طويل لم يلتق بمدينة الياسمين، وفي داخله شوق ورغبة لقول الشعر فيها، فكان لا بد من المجيء إليها، وخاصة هي الحاضنة لأكبر ملتقى ثقافي، معرض الكتاب في دورته الحادية والثلاثين.
أهدى الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين قصائد أمسيته الشعرية التي أقامها في دمشق إلى صديقه الراحل الشاعر جوزيف حرب حيث قال: «كنت أتمنى لو يقاسمني هذه الأمسية الدمشقية»، وتسلم الدرع التكريمية في دمشق باسم اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة بعد الأمسية التي وصفها بالقول: كانت يداً بيضاء كياسمين دمشق الذي ما زال يملأ فضاء المدينة الأبية رغم الدم والضغينة، الصراع على سن القصيدة. نعم لكن الساحة كانت هادئة وصافية كصفاء البحيرات السبع. ومن دموع الحلاج إلى وجه لجبران وفتى الرمان ووجه لأمي والقبلة….. حتى الشيرازيات…. كان ثمة من يصغي ويطلب المزيد من القصائد.. وجه لليلى وقصيدة أخرى في الحب.

قصيدة وجه لجبران
كان يجالسني فوق العشب على أكتاف مدينته
ويجاذبني أطراف الحلم وأطراف العالم
ينظر آنا للبحر وآونة
ينظر في بحر كآبته
فتهاجر من جفنيه حمامة وعد تظهر بعد الطوفان
ويقول بأن اللـه تكلم في حنجرة العصفور وحنجرة الوادي
وترنم في حنجرة الإنسان
لا بأس… قريب منك اللـه إذن
وصلاتك أعمق من هذا البحر
وأبعد من تلك الشطآن
فاغرف من نفسك حتى تعرف نفسك يا ملكي…… وحبيبي
تمتد تجربة محمد علي شمس الدين الشعرية على ما يزيد على نصف قرن من العطاء المتواصل من «قصائد مهربة» إلى «حبيبتي آسيا»، وتميز بجزالة لغته وقوة إيقاعه وعمق معانيه، وكان لـ«الوطن» الحوار التالي.

ماذا يعني لك المشاركة في دورة معرض الكتاب الحادية والثلاثين؟
أعادت إلي قراءة الأشعار شيئاً من السرور المفقود بعد حرب طويلة بدأت تنفض أجنحتها السوداء عن المدينة والبلاد، فالشعر هو إعلان بعودة الدورة الدموية الحقيقية إلى دمشق لأنه طريقنا وسر جمال لغتنا وشاهد من شواهد بقائنا.

سبق أن دعيت في الدورة الماضية لإقامة أمسية شعرية وانتظرك جمهورك لكنك اعتذرت فما الأسباب؟ وهل كان هذا حافزاً لمشاركتك هذا العام؟
اعتذرت أكثر من مرة لأسباب أمنية باعتبار الأحوال لم تكن جيدة، ولم أكن مطمئناً للأحداث القاسية التي جرت في سورية، وللسبب نفسه كنت أعتذر بما يخص سفري إلى بغداد رغم شوقي لكلتا العاصمتين، ولكن حين استقرت الأمور لم أتردد.

من يفتقد محمد علي شمس الدين في المشهد الشعري؟
الفقدان دائم وهذه سنة الحياة، أفتقد ممدوح عدوان ونزار قباني وعلي الجندي هؤلاء أصدقاء كنا معاً، وأتذكر دائماً صديقي جوزيف حرب الذي كنت غالباً ما أحضر إلى دمشق بصحبته، وخاصة خلال أيام مهرجان «المحبة» في اللاذقية كنا معاً دائماً وقد أهديته قصائد الأمسية.

أنجزت ملاحم شعرية متفوقة، فماذا عن تلقيها لدى المتابعين؟
القصيدة تختار قارئها، تمتلك مناخاً وفكراً وفلسفةً وتوجهاً يشكل دائرة القراء، تلك الدائرة التي تحظى على العموم باهتمام أشعر به ليس فقط لناحية القراء العاديين وإنما من ناحية تلك الأبحاث الأكاديمية التي تُجرى حول شعري حيث يوجد أكثر من عشرين أطروحة ماجستير لهذا العام. وكما هو معروف أن البحث الأكاديمي يحتاج إلى أساتذة كبار وموضوع وطالب متابع بمعنى أن هذا الشعر مطرح دراسة، والدواوين التي صدرت أعيدت طباعتها ثلاث مرات، وهذا دليل على أن ثمة من يقرأ، لا أستطيع تحديدهم عن بعد فهم كتلة مبهمة، وليس لدي أوهام لناحية العدد، لماذا؟ لأن نمط الشعر الذي أكتبه يحتاج إلى حساسية ومعرفة وليس شعراً على البداهة أو شعراً قريب المتناول، لذلك أفترض أن الذي يتواصل مع هذا الشعر يطلبه أو يرغب فيه أو يكون مهيأً لتلقيه، وفي الأمسية كان يهمني الصمت أكثر من التصفيق لأن القصيدة التي أكتبها تخاطب العصب والتأمل فضلاً عن الأقنعة التاريخية التي أستعملها وكلها عناصر تجعل القارئ شبيهاً بالقصيدة.

ما أهم المشروعات الشعرية لديك؟
مازلت أكتب ومازال شعري يشكل محوراً من أهم محاور حياتي، فالقصيدة هي ضالتي وما أبحث عنه باستمرار. وفي الحقيقة، سيصدر قريباً كتاب ضخم حول علاقة الشعر بالفلسفة والتاريخ وبالفن والنحت والرقص والموسيقا، عنوانه «حول الكشف والمنطق ونقيضه وعلاقة الشعر بالفلسفة»، وأنا أعتقد أن الشعر ينطلق من أرض التاريخ ولكنه دائماً يبحث عن أفق وجودية وفلسفية، ولا يوجد شعر بلا هذا الأفق، ولكني أميز بين الشعر والتاريخ والفلسفة، فالشاعر ليس مؤرخاً ولا فيلسوفاً ولكن له حساسيات في كل شيء من خلال المخيلة، وهذا ما قاله المتصوف عندنا وما قاله في الغرب هايدغر، وشعرنا العربي على العموم الحاضر والماضي ميال إلى نوع من الإنشاد والغنائية، وقلائل هم من يتأملون شعرهم مثل طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي، والمعري والمتنبي وصولاً إلى الشعر الحديث عند البياتي وخليل حاوي وصلاح عبد الصبور، وشعري مؤسس على هذا، وأنا أقول لا نقد بلا فلسفة ولا شعر بلا فلسفة.
هذا إضافة إلى أنه صدر لي حتى الآن 23 مجموعة شعرية، وأعيدت طباعتها ثلاث مرات في بيروت والقاهرة والجزائر والإمارات، وتم التعاطي النقدي مع هذه المجموعات بشكل جيد وموسع، وأخر ديوان صدر لي بعنوان «كرسي على الزبد» عن دار الآداب، وقبله صدر عام 2014 ديوان «النازلون عن الريح» وعن دبي الثقافية «ينام على الشجر الأخضر الطير»، وكتب في النظرية النقدية الشعرية.

هناك تراجع في المشهد الشعري، هل خفت ضوء الشعر؟
الخط البياني للشعر منذ قديم الزمان هو خط متعرج، وإذا بدأنا من الجاهلية نرى في عيني الشاعر الصحراء وعلى شفتيه الكلمات، لم يكن للعرب من فلسفة وفكر سوى الشعر على عكس أهل اليونان الذين امتلكوا المسرح وفن العمارة والموسيقا، لم يكن لديهم سوى الشعر وجاء الإسلام فحد من الشعر وانطلق مع الفتوح ثم تمت تلك المصالحة بين الشعر والقرآن على يد المتصوفة ودخل في فتور خلال العصور الوسطى إلى أن عاد مع النهضة العربية الحديثة، والآن لحظة الشعر هي لحظة متشظية ومتفتتة إلى حد ما لأن هذه الدورة الشعرية وصلت إلى مرحلة من النضوج ثم مالت إلى شيء من الكسوف، وهي لحظة في العالم كله وليس في اللغة العربية.
على العموم أنا ألاحظ في العالم أن الفنون تميل إلى شيء من الانحدار فمثلاً الموسيقا اليوم لا يوجد موسيقيون كبار مثل بتهوفن وغيره، وفي الرقص هناك البلوز والرقص السريع، وفي الرسم أيضاً لم يعد هناك هذه اللوحة العظيمة أو الفنان الكبير إذاً الفنون كلها في العالم تميل إلى نفاياتها، وفي الشعر هناك ميل إلى التفاصيل اليومية والاهتمام بالمهملات واللحظة الفيسبوكية للشاعر التي أجدها عابرة إلى حد ما وسريعة.

ما الشعر؟
الشعر هو علامة من علامات الحضارة، هو جزء من مجتمع يتعاطى مع الفنون التي تهذب الأخلاق والحياة وتخفف الوحشية وتصفها. الفنون هي أقدر على وصف حركة الحياة في وجوهها كافة في لطفها وعنفها، لا يمكن أن أتخيل كائناً يعيش بلا شعر، خرجت صرخات كانت بداياتها مع الفيلسوف هيغل عام 1823 الذي أعلن موت الشعر، فباعتقاده أن الشعر يخدم الفلسفة، وحين اكتملت الفلسفة صار لا بد من سكوت الشعر، ومن وجهة نظري الشعر لا يخدم إلا نفسه، يستعمل الفلسفة ولا يخدمها، ويستخدم التاريخ ولا يخدمه، ويستعمل المجتمع ولا يخدمه، وهناك نظرات ترى أن الشعر يجب أن يقول القيم الأخلاقية العدل والحب والمساواة ويخدم الجمال بالمطلق، في النهاية الشعر هو الوجود بكل تناقضاته بأبيضه وأسوده.

يستخدم الشباب وسائل التواصل الاجتماعي لكتابة مقاطع شعرية أو نثرية لتصبح واسعة الانتشار، ما رأيك بهذه الوسيلة؟
عالم الانترنت فضاء لا بد منه، ولا يمكن التخلي عنه وبالوقت نفسه لا نستطيع الاستسلام له فهو سريع وخفيف في الكثير من الأحيان، هو أداة للتواصل أكثر من كونه حاملاً للإبداع، أنا شخصياً أستعمل جدار الفيسبوك ولكن لابد من الكتاب فهو أكثر ثباتاً وذاكرة ليست سريعة الذوبان مثل العالم العنكبوتي.
أصبح وجود الإنترنت الافتراضي عالم كل إنسان يملك فكرة أو إحساساً يستطيع من خلاله التعبير بحرية عما يجول بخاطره وتسميته بالشعر أو ما يشابهه، وفي هذا الفضاء تطير طيور جميلة وبالمقابل يطير الكثير من البعوض والحشرات السامة ولا بد من الانتباه.

تنتشر فكرة عن سهولة اقتناء الكتاب افتراضياً عوضاً عن امتلاكه من على رفوف المكتبة؟
في الحقيقة، دخل الكتاب دائرة الخطر في عالمنا العربي، أما في الغرب وأوروبا والصين والبلاد المتطورة مازال للكتاب دور ومازالت القراءة منه حاضرة وموجودة، وأنا شخصياً لا بديل لي منه، ولكن إذا أردت أن أكتب بحثاً لا أستطيع البحث في مكتبتي عن مرجع، بل ألجأ بلمسة صغيرة وسريعة على «غوغل» الذي يعتبر دماغ العالم لأصل إلى المعلومة التي أريدها وليس بدافع الاستغناء عن الكتاب وإنما بسبب تراكم الكتب عندي.
لقد أصبح غوغل مرجعية عالمية وسريعة، وفي الوقت نفسه من المستحيل أن أقرأ رواية على الانترنت أو ديوان شعر وإنما حصراً من الكتاب رغم قدرتي، ولكن لا أستمتع بالقراءة إلا بملامسة الورق والتعليقات التي أكتبها على النص أو الدراسة أو البحث، وبكل الأحوال لا أعتقد أن عالم الانترنت سيلغي الكتاب وإنما ستبقى له أهميته ومكانته الخاصة، وفي الوقت ذاته لا يمكن التخلف عن العصر لكن دائماً العصور بتواليها تترك أشياء للمستقبل، وفي عالم الفنون خاصة ليس هناك إلغاء للماضي، وإنما هناك نوع من التدوير للأزمنة سواء بالشعر والرسم وبأي فن، فمثلاً الفن التكعيبي هو فن حديث في الرسم ولكن مؤسس على الأقنعة الإفريقية يعني على أقدم مظاهر الفن في التاريخ، واليوم أستطيع استحضار امرئ القيس الذي مر عليه أكثر من 1500 عام والاستعانة بشعره، إذاً في الفنون التقادم لا يلغي بل يجمعها في الذاكرة.

هل يمكن التحدث عن مكتبتك؟
تضخمت مكتبتي جداً، وكان لابد من إبادة بعضها فقد ملأت الصالون وهجمت إلى المطبخ ثم دخلت إلى السرير بيني وبين زوجتي، فكان لابد من تشذيبها. في النهاية أنا قارئ لآلاف الكتب وحريص على إلا تكون قراءتي عابرة، وأسجل على الهوامش ملاحظاتي لأكوّن ذاكرة مستقلة على دفتر صغير لأعود إليه بين فترة وأخرى.

وعن شعر المقاومة وأهميته في هذا الزمن المملوء بالخراب والدمار؟
هناك ثلاثة مستويات لشعر المقاومة، الأول شعر يدعو للإقامة في الأرض وخاصة إذا كانت مهددة، ونمط ثانٍ يسمى شعر الرحيل أو الهجرة أو الغربة، يقول أبو الطيب المتنبي «تغرب لا مستعظماً غير نفسه ولا راضياً إلا لخالقه حكماً ولا قابلاً إلا لخالقه حكماً» والثالث هو شعر المنفى، والنمط الأهم الذي أراه أنا شخصياً هو شعر الإقامة في اللغة يعني أي شعر رائع وجميل يعزز اللغة ويفتح آفاقها وآفاق الحياة ويدعو للحرية.
لدي رأي قاسٍ في هذا الشعر، ولست معجباً بما يسمى شعر المقاومة في الوطن العربي والعالم، على سبيل المثال بابلو نيرودا من أكبر شعراء العالم، وحين يتكلم عن شعر المقاومة يصبح رديئاً في شتائمه وهجائياته، وفي حديثه عن الحب و«ماتيلدا» والفؤوس فهو من أجمل الشعراء، وأيضاً الشاعر ناظم حكمت أنا لا أحب شعره السياسي واعتبره نوعاً من التبليغ يستطيع الخطيب أن يبلغه، وهذه نظرتي فيما يسمى شعر المقاومة.

وعن الحب في أشعارك؟
الحب أساس الحياة وأساس البقاء، هو لحمة الكائنات سواء كان رجلاً أم امرأة، وبين ورقة وأختها في الشجرة، وبين الشخص والنهر، وبيني وبين أي شيء يجعلني التحم معه، ولا يوجد شاعر بلا حب، وشعر الحب قديم في التاريخ ومازال، ولا بدّ من الكلام، أريد أن أقول بعض الثغرات في الحب، في الموت، في القصيدة، في الحياة، أقول لمن أُحِبّ مثلاً لامرأة أقول لها، «أنحني ألفَ عامٍ لأُصغي إليكِ».

قدمت في الأمسية قصيدة بعنوان «إلى آمنة أمّي» قصيدة لوالدتك، هل لنا الاطلاع على هذه العلاقة المقدسة؟
في طفولتي كنت بعيداً عن أمي، تربيت في بيت جدي بسبب سفر أمي ووالدي للعمل في الخارج، وعندما كبرت بقيت بعيداً أيضاً وكان بالإمكان أن نلتقي، إلا أنني ابتعدت في العمل وذهبت إلى مكان بعيد عنها، وكأنها لم توجد أو تولد إلا عندما ماتت فأحسست بفقدها، لذلك في كل قصائدي عن أمي أقول لها «لابد أن نلتقي»، بمعنى أنه ثمة مسافة وشغور بيني وبينها، وقد كتب الكاتب والقاص مصطفى الجوني كتاباً عن القصائد التي كتبتها في أمي مثل «سأدخل في الناي كي تذكريني» وقصيدة «وجه لأمي» والقصيدة المهمة بعنوان «الفراشة» والتي كتبتها حين ماتت وتبدأ
«في الليل
في الحَلَك العظيم
وعند تشابك الأحياء بالموتى
وولولة الرياح
دفنتُ أمي».

تفتحت موهبة الشاعر محمد علي شمس الدين الشعرية باكراً، ويعتبر من طليعة شعراء الحداثة في العالم العربي منذ العام 1973 حتى الآن، وقد شارك في العديد من المهرجانات الشعرية في البلاد العربية، ويعكف على كتابة مقالات نقدية وأدبية عن الشعر والأدب والفكر في المجلات والصحف اللبنانية والعربية، وهو عضو الهيئة الإدارية في اتحاد الكتّاب اللبنانيين. وأبرز ملامح شعره ونشاطه الشعري: شاعر حديث إلا أن نتاجه الشعري لا ينحصر في مجال واحد، وأغلب شعره يتفاعل مع رموز التاريخ العربي والإسلامي، وحاز في العام 2012 جائزة العويس الشعرية، وترجمت أشعاره إلى أكثر من لغة منها الإسبانية والفرنسية والإنكليزية.
كتب عن قصائده الكثير من النقاد العرب والغربيين، ومن بينهم المستشرق الإسباني بدرو مونتابيس حيث قال: «يبدو لي أن محمد علي شمس الدين هو الاسم الأكثر أهمية، والأكثر وعداً في آخر ما كتب من الشعر اللبناني الحديث، في هذا الشاعر شيء من المجازفة مكثف وصعب؛ ولاسيما أنه عرضة لكل الإشراك. شيء ما يبعث على المجرد المطلق، المتحد الجوهر، اللاصق بالشعر في أثر شمس الدين، وقلة هم الشعراء الذين ينتصرون على مغامرة التخيل، ويتجاوزون إطار ما هو عام وعادي، وهؤلاء يعرفون أن مغامرتهم مجازفة كبرى، ولكنهم يتقدمون في طريقها».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن