كثيراً ما يعُج العالم الرقمي بفيديوهات متداولةٍ لاختراعاتٍ نتمنى إنجازها، كالقطارِ البرمائي أو جسمَ طائرةٍ مدنية يمكنهُ الانفصال عند عطبِها فيسقط عبرَ مظلاتٍ تحملهُ لضمان حياة المدنيين، وغيرها.
هناك من يشاهد الفيديوهات ويظنها أفكاراً بدئ بتطبيقها، لكنها في الواقع إما مشاريعَ تخيليةٍ لا إمكانيةِ لتحقيقها في المستقبل القريب، أو مشاريع كانت قائمة على الورق، أُجريت عليها الدراسات المطلوبة، لكن نجاحها على الورق لا يعني نجاحها في المنطق العملي، لأنها ستكون محكومة برأسِ المال والجدوى الاقتصادية منها، أساساً لو لم تكن كذلك لما تم تسريبَ الفيديوهات والأفكار.
في الحالةِ السورية قد لا يختلف الأمر كثيراً، فخلال سنوات الحرب الماضية شاهدنا الكثيرَ من «الخُزعبلات العلمية» المتداولة، فهذا اخترعَ طريقةً لتوليد الكهرباء عبر الماء، وذاك اخترع دواءً لمرضى السرطان بدون علاج كيميائي وللأسف جميعها أخبار كاذبة.
بعضها أخبار لم تبق حبيسةَ الفيسبوك، بل تعدته لتتبناها مواقع إخبارية موثوقة قد تكون مدفوعةَ الأجر أو حسب المحسوبيات، كاجتياز طالب سوري امتحانَ تعديل شهادة البورد الأميركي، هل باتَ هذا الأمر إنجازاً؟ أو حصولَ أحدهم على جائزةِ «أفضل طالب دكتوراه في فرنسا»، هل لكم أن تزودونا بالجهة التي تمنح جائزة كهذه؟
بذات الوقت حملت السنوات السابقة الكثير من الإنجازات التي تستحق الاحترام، لكن آلية تغطيتها الإعلامية افتقدت الكثير من التدقيق اللفظي أو العلمي. لغوياً قد نجد أنفسنا أمام تراتبيةٍ يحكمها حجم العمل المُنجز كالآتي:
1- الاختراع: اخْتَرَعَ الشيء أنشأهُ أو أبدعهُ، هذه الكلمة تُطلق على شيءٍ ليسَ لهُ وجود مسبقاً، فالإنسان اخترع السيارة، لكن إن كان هناك شركةَ سياراتٍ أنشئت قبل عامٍ، فعلامتها التجارية لم تُخترِع، ولا تستحق سياراتها لقب «اختراع».
2- الاكتشاف: اكتشفَ الشيء رفعَ عنهَ ما يحجبه، الاكتشاف أقرب للاختراع، لكنه أقلّ مرتبةً منهُ لاستنادهِ إلى أشياءَ موجودة في الطبيعة لكنها كانت مجهولة، فالإنسان لم يخترع النفط بل اكتشفهُ، وبذات الوقت اخترع الأدوات التي تسهِّل استخراجه.
لعلَ كلمة اكتشاف تبدو أكثرَ شموليةً في عصرنا الرقمي، فعلى سبيل المثال فإن الغربَ اليوم يعطي مكانةً مهمة للدراسات المتعلقة بالمكافحة الحيوية للمحافظةِ على الأمنِ الغذائي، قد لا تقل عن تلكَ التي تحصل عليها أبحاث السرطان وما يعنيهِ الأمر من ميزانياتٍ ضخمة، لتتجسدَ هنا كلمةَ «اكتشافٍ» لا «اختراع»، فالفكرة تقوم على منعِ استخدام المبيدات الكيميائية في مكافحة الحشرات الضارة بالزراعة والمجيء بحشرةٍ قادرة أن تتغذى على الحشرة الضارة، لغوياً هم لا يسعون لاختراع حشرة تفترس، بل يسعون لاكتشاف حشرة تقوم بهذهِ المهمة.
3- التطوير: على صعوبتهِ لكنه يبقى إحدى أكثر الخطوات سهولة لأنه يستند إما لتطوير اختراعٍ موجود أصلاً كالهواتف الذكية، أو تطوير اكتشافٍ موجود أصلاً كما هو الحال مع العناصر الطبية النباتية.
في الخلاصة: بكل تأكيدٍ علينا الوقوف إلى جانبِ أيّ إبداعٍ سوري، لكن الأمانة العلمية والصحفية تقتضي أن نتعاطى مع أي حدثٍ علمي بما يوازيهِ لغوياً، بل إن الإضاءة الخاطئة قد يكون ثمنها في مكانٍ آخر تجاهل اختراعاتٍ واكتشافاتٍ حقيقية، تحديداً إننا هنا لا نتحدث عن ألقابٍ مجانية تُمنح هنا وهناك على الإعلام كما جرَت العادة، نحن نتحدث عن مشاريعَ قد تبدِّل مسارات الإنسانية باعتبار أن الاختراعات والاكتشافات هي ملك للإنسانية جمعاء، لكن ببساطة عندما تكون المشاريع مستندة لتجميعِ عدة تقنياتِ موجودة أساساً فهذا لايرقى للقب اختراع، مغالطة كما لو أننا نتحدث باللغة العسكرية عن اختراعاتٍ لحمايةِ عناصر الجيش قائمة على ربطِهم بالأقمار الصناعية! والأمثلة كثيرة تجعلنا نطرح تساؤلاً مهماً:
هل هي مجرد أخطاءٍ لغوية أم إنها أخطاء علمية؟ الأسوأ ألا يكون هذا ولا ذاك.