ثقافة وفن

دمعة غراب.. وأهل الكهف

| إسماعيل مروة

حين تنداح لحظة هاربة في قعر الذاكرة تكفّ الذاكرة عن رسم متوالية الدوائر، فهي ليست بئراً من الماء، وليست قابلة لاستقبال اللحظات الهاربة كما البئر الذي استقبل يوسف في متاهته.
تكف الذاكرة عن تشكيل متوالية الدوائر، وتصعد باللحظة نحو الأعلى، لتصبح اللحظة سماء للذاكرة تظللها بذكاء أو بخبث، إما أن تكون نشوة لا تزول، وإما تكون دماً نافراً إلى الأعلى.. وكلاهما تعبير عن رعشة من نشوة وألم!
يتذاكى الذكي
يتذاكى أكثر
يتخيل أنه يمكن أن يفعل فعله في الذاكرة..
يظن أنه قادر على حشوها بما يريده، يتهيأ له أنه يمكن أن يجمع ما بها وما لها ليضع مكانه ما يشاء
وحدها الذاكرة لا تحتفظ بالزبد
لا تعطي المتذاكي فرصة بأن يستخرج ما على السطح
في الذاكرة كل شيء في القعر
الألم في القعر
الحب في القعر
الاهتمام لحمة الذاكرة
اللامبالاة شرخ الذاكرة
لا تحتفظ الذاكرة بالكلام العذب
لا تعقل الذاكرة إلا الفعل المتماهي الذي ينسرب إلى عمق لا يدركه المتذاكي.. يشبه بئر يوسف في العمق، وإن لم يكن فيه من ماء أو دوائر.
ما في الذاكرة واضح وقريب يشبه قبر الغراب الذي دفن أخاه ليعلم قابيل كيف يدفن هابيل بعد أن قتله ونفض يديه منه..
ما فيها قريب المأخذ والمنال، تصل إليه بنبش بسيط لتلافيف ليس فيها أي عقدة يمكن أن يتحايل عليها المرء ذات لحظة من ذكاء مصطنع.
الذكاء المصطنع
الذكاء الصنعي
كلاهما لا يصنع حياة أبدية
ولا يدلف إلى سنا برق مختلف
يبقى على حافة الكأس
يستقر على طرف بئر بلا ماء طهور
يجمع ماء المطر.. لا نبع فيه
لا عين تزوده بالطاهر من الماء
كلاهما رفضهما المتنبي الجدّ
أكان سخاء ما أتى أم تساخياً
وتبسط ضفائرها للسخاء..
وحده السخاء بالروح وما تبقى من نبض روح يبقى
تعلّم قابيل.. وارى سوءة أخيه
لكن صورة عبقرية الغراب بقيت
الأجساد على بساط الأرض
الأرواح تغادر الأجساد
التراب ينخر ما تبقى من الجسد
يتلاشى الجسد مع الزمن
تتغذى الطيور الجارحة
وحده الغراب يقف بعين دامعة
يرقب قسوة المتصنع
يرقبه شاهراً موته
يتابعه قاتلاً أخاه
يصوّره باقراً صدره بحثاً عن كبد
كانت وحدها هند
هند بنت عتبة لاكت كبد حمزة
صورة شوهاء بقيت
وكل هند وهنود لم تحفظ الذاكرة
وبعد أن استلّ الأكباد
جلس يتابع العقاد ورسالته
يشتم هنداً.. ويشمئز من مضغها للكبد
وقبل أن يدير الشريط كان يدوس الأكباد
وكأن كل كبد غير ذاك متاح ومباح
وكأن الأكباد الأخرى حرام
يبكي الغراب عجزه
كثرت القبور
تزايدت الضحايا
لم يعد قادراً على نبش التراب وحده
والإنسان يغيظه
لا يعطيه فرصة النبش لمواراة الجسد
يقترب منه.. يرجوه
لكنه يصفعه بعنف
فيطير الغراب
وتبقى دمعته محوّمة على الأرض الجافة
مدن ملح.. مدن رمل.. مدن إسمنت
كيفما كانت المدن لا يهم
إنها بلا أرواح
لا تستوعب دمعة غراب
وتدور الدمعة في قعر البئر
يوسف الحسن يلتقطها والسيّارة لا يرونه
تحجبه دمعة الغراب عنهم
لا يراه السيارة
لا يسمعون استغاثاته وصرخاته
وفي جوف قاسيون… في كهف الأربعين
ينادي أهل الكهف
وكلبهم باسط ذراعيه
لا مال ينفع.. ولا نوم جاء بالنجاة
وأنكر الناس نقدهم
أعادوهم إلى كهفهم
سدوا عليهم المنافذ
تركوهم لموتهم المحتم
لا مال بعده ولا غذاء
ومزّقوا كلبهم الوفي الباسط ذراعيه
لم تسعفه عودة الحياة
مزقوه قبل أن ينهض
وذرات التراب تسعى وراء الريح
تركض .. تلهث.. أثقلها الدم
أتعبها الحقد والخوف
تطايرت على مهل… وغطت باب الكهف
صار محكم الإغلاق.. لا شيء يبدو منه
والغراب نصب عشه فوقه
وصارت مملكة للغربان
وفي كل لحظة يصل صوت الشيخ محيي الدين
ويقرع جرس السيدة
يذرف الغراب دمعة
ومع اصطفاق جناحيه
يرسم «شام»
وعمامة.. وصليباً
وتبدأ رحلة البحث
عن مواراة سوءة الأخ

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن