أغلب من أعرفهم يشاركونني ثقل هموم أداء أي معاملة حكومية.
في تسعينيات وبداية القرن الحالي، كان الأمر يستدعي تفرغاً كاملاً لتنفيذ أي معاملة، سواءً كنت تسجل في الجامعة، أم تنقل ملكية عقار، تشتري، أو تبيع، بدءاً من الوثيقة التي لا غنى عنها، كوثيقة اللاحكم عليه، مروراً بالبيانات العائلية، وبراءات الذمة، وصولاً للموافقات الأمنية، التي غابت زمناً قصيراً، وعادت لتطل ببيروقراطيتها من جديد.
وكان أحد المدافعين الحزبيين عن كل ما تطلبه الحكومة، وتتطلبه لإجراء تغيير رسمي بسيط في شأن من الشؤون، كان يقول دوماً إن الدولة يجب أن تحرص أولاً على أن كل مواطن قد قام بواجبه على أكمل وجه، وأنه بريء الذمة، من كل دين للدولة عليه، حتى تنجز أموره بالتمام.
وكان انطباعي دوماً أن المواطن متهم حتى يثبت براءته، سواءً كان ينوي الزواج، أم الاستثمار التجاري، ومع الوقت، بتنا نسمع عن قضايا فساد ورشوات وصفقات مهولة لمسؤولين في الحكومة، ممن يطلبون من المواطنين شهادات حسن السلوك دوماً، الممهرة بعشرات الطوابع المتعددة الألوان والأحجام والوظائف.
ومع تقدم وسائل الإعلام، وبعدها وسائل التواصل الاجتماعي بتنا كما نسمع نرى أيضاً، وبات الحرج هو حرج الفقير لا حرج الثري، حتى وصلنا ضمن تراكم عوامل كثيرة أولها غياب المحاسبة والشفافية وآخرها ظروف الحرب، لما وصلنا إليه، من قدرتنا على تبرير الفساد، ووضعه ضمن سياق اقتصاد الظل، الذي يسمح للمواطن قليل الحيلة ضعيف الدخل بالاستمرار بالعيش، الذي ليس بالضرورة عيشاً كريماً.
والواقع الحالي، ومن جملة النقاشات التي نخوضها، لم يعد الفساد الكبير ولا الفساد الصغير، مصدر مفاجأة أو دهشة.
علماً أن الأرقام قد تكون مهولة أحياناً، لا تصلح حتى لروايات كتّاب أميركا اللاتينية التي يخلطون بها الواقع السحري بالواقع المحبط.
مليارات الليرات، تذهب في قنوات سرية، بوثائق ممهرة بعشرات الطوابع لغير مكانها. كل هذا لم يعد غريباً، ولا يثير سوى السخرية على وسائل التواصل، إذ تجاوز الناس الغضب والحنق، وباتت هذه الخبريات للتفكه والتأمل البائس.
رغم هذا، تتفتح الأفواه بالدهشة، حين يجلس أحدهم ليروي تجربة علاجه بمشفى متخصص بالأورام في اللاذقية، يخضع لأسلوب إدارة خاص، واهتمام استثنائي.
يبدأ الحديث مثاراً بشعوره أنه في بلد آخر تماماً، متمعناً بكل التفاصيل اليومية لتجربة العلاج والاهتمام، الذي يحظى به كل المواطنين من دون استثناء أو تمييز، ناهيك عن اللطافة والدقة في المواعيد، والخبرة العلمية والأجواء العامة المريحة.
هذا الشعور يمكنك أن تجربه في جزر أخرى متناثرة هنا وهنالك في البلد.
منها مراكز النافذة الواحدة، رغم أنها بدأت تعاني الإهمال والفوضى، إلا أنها تجربة تنقلك من بلد إلى بلد، لا يفصل بينهما أحياناً سوى جدار واحد.
هذا تعايشه تماماً في مديريات فرضت حديثاً عليها هذه التجربة، فتسمع شكوى، وترى محاولات مقاومة برشاوى توضع خلسة في اليد، لكن الكاميرات تسجل كل شيء، بانتظار المحاسبة ربما. وبين المركز وباقي الغرف جدار يفصل بين عالمين متناقضين، رغم أنهما متصلان بكل شيء.
في زيارة لأحد المصارف العامة، تسلقت موجة بشرية للوصول للموظف المسؤول، وسألته وأنا ألوح بأوراقي.. لماذا لا يعمل جهاز اختيار الأرقام الذي في الواجهة، فالتفت لزملائه وغرقوا في نوبة ضحك طويلة.