قضايا وآراء

ما بعد أنقرة وقبل طهران

| عبد المنعم علي عيسى

يمكن الجزم بأن قمة أنقرة التي جمعت ثلاثي أستانا الضامن يوم الإثنين 16 أيلول الجاري كانت هي الأهم بمقياس النتائج من بين أربع قمم سبقنها، وهي حققت دفعاً لعربات عدة كانت تبدي عدم جاهزيتها للانطلاق من جديد، ولربما كان ذلك متوقعاً بدرجة كبيرة قبيل انعقاد القمة قياساً لأمرين اثنين أولهما التغير الكبير الحاصل في خرائط السيطرة الميدانية والذي تمثل بسيطرة الجيش السوري على كامل ريف حماة الشمالي ثم على مدينة خان شيخون، وثانيهما يتمثل في أن الجولة الـ13 من أستانا التي انعقدت مطلع آب المنصرم كانت قد رحلت إلى تلك القمة، بأفق كان يبدو أن ثمة رهاناً واضحاً عليه، ملفات مهمة أبرزها الإصرار على إنجاز تشكيل «اللجنة الدستورية» بأسرع وقت ممكن وكذا التلاقي عند أهون الشرور في ملف إدلب.
من الممكن رصد ذلك التقدم عبر المقارنة ما بين الأهداف التي راهن كل من الأطراف الثلاثة على تحقيقها قبيل انعقاد القمة، وبين النتائج التي تم التوصل إليها والتي يمكن رصدها عبر بيان القمة النهائي، وكذا في التصريحات التي أدلى بها الرؤساء الثلاثة في أعقاب انتهاء المفاوضات.
جهد الجانب الروسي في قمة أنقرة كان منصباً على التخفيف من التصلب التركي فيما يخص شروط التسوية السياسية للأزمة السورية وتحديداً في تشكيل «اللجنة الدستورية»، وفي الآن ذاته استصدار إعلان صريح يقضي باعتراف الأتراك بوحدة وسيادة سورية على أراضيها كنوع من ضبط للسياسات التركية المحمومة في مناطق شرق الفرات، أما الإيرانيون فقد انصب اهتمامهم في القمة على كسب ود طرفيها الآخرين مع العمل على عدم خروج الخلافات عن حالة الانضباط التقليدية المعهودة، وذاك مسعى شكل محور الاهتمام الإيراني نظراً للظروف العصيبة التي تمر بها المنطقة وبالدرجة الأولى إيران في أعقاب السخونة الزائدة التي تشهدها الحرب اليمنية، وهو الأمر الذي يفسر الإصرار الإيراني على انعقاد القمة السادسة في طهران، وهو ما حصل، الأمر الذي سيمثل تعبيراً صريحاً على تضامن روسي تركي مع هذه الأخيرة بوجه العدوان والاستفزازات الأميركية المتكررة، أما الأتراك فقد تركزت مساعيهم في الحصول على دعم روسي إيراني فيما يخص «المنطقة الآمنة» في مواجهة تفلت أميركي ترى فيه أنقرة محاولة للشد بمجريات الأحداث نحو «آلية أمنية» تكون حافظة للحليف الكردي لواشنطن بعيداً عن «منطقة آمنة» من شأنها ضمان أمن تركيا على حدودها الجنوبية، بالرغم من أن أنقرة مقتنعة بأن حالة الاحتياج الأميركي الراهنة هي للبندقية الكردية وليست للمشروع السياسي الكردي، وهو ما يتمظهر عبر محاولات إعطاء وقت إضافي يبقي المشروعية على حالة الاحتياج الأولى مما أمكن لحظه عبر الأسبوعين الماضيين من خلال النشاط الواضح لبعض خلايا داعش في العراق وسورية بعد غياب امتد لأشهر أعقبت الإعلان عن هزيمة التنظيم في معركة الباغوز بريف دير الزور الشرقي في آذار الماضي، على الرغم من ذلك فإن أنقرة تبدو غير مطمئنة لطول فترة الاحتياج سابقة الذكر وهي غير مطمئنة أكثر للمآلات التي يمكن للأحداث أن تسير إليها في منطقة باتت برمتها على فوهة مدفع.
في النتائج الملموسة يمكن القول إنه جرى التوافق على «اللجنة الدستورية» لكن دون الإعلان عن بدء إطلاق أعمالها بانتظار نتائج زيارة المبعوث الأممي غير بيدرسون إلى دمشق، والاختراق كان قد حصل بعدما سحبت أنقرة اعتراضها على دحام الجربا الذي كانت دمشق قد رشحته من بين الأسماء الأربعة التي أعطيت لها بعد حل مشكلة الأسماء الستة التي اختلف حولها الضامنون على ما يقرب من عام، والمؤكد أن زيارة المبعوث الروسي الكسندر لافرنتييف إلى دمشق في اليوم السابق لانعقاد القمة ولقائه بالرئيس بشار الأسد كان قد أعطى دفعاً نهائياً نحو تضمين البيان النهائي توافقاً أكيداً حول ذلك الملف، والراجح هو أن لافرنتييف قدم ضمانات لدمشق بأن تكون مرجعية مقررات مجلس الحوار الوطني السوري المنعقد في سوتشي كانون ثاني 2018 هي الراجحة في «قواعد العمل» التي ستعتمد في آلية عمل اللجنة على مرجعية القرار 2254 الذي كانت لدمشق تحفظات عديدة على بعض بنوده، ومن المقدر أن تحقق اللقاءات التي ستشهدها ردهات الأمم المتحدة في دورتها لهذا العام أواخر هذا الشهر المزيد من التقدم على صعيد هذه التوافقات سابقة الذكر عبر اللقاءات التي ستجمع ما بين ضامني أستانا والمجموعة المصغرة.
في ملف إدلب يبدو أن هناك ثمة توافقاً شفوياً على تأجيل العملية العسكرية الكبرى التي سيهدف الجيش السوري من خلالها إلى تحرير إدلب بكاملها، بهدف إعطاء الفرصة للعملية السياسية التي إذا ما صدقت النوايا التركية فيها فإنها قد تفضي إلى استعادة المدينة إلى حضن الدولة من دون عمل عسكري وبدون أوجاع إنسانية، ولسيناريو مفترض كهذا اعتبارات عديدة تتعلق بحسابات أنقرة في علاقتها بالثالوث الألماني الفرنسي البريطاني، وكذا بحسابات تطورات الأوضاع في الشرق السوري.
إلا أن الموضوع الأهم الذي شغل الحيز الأكبر ما يعكسه البيان النهائي للقمة هو ملف شرق الفرات وإقامة «المنطقة الآمنة» والذي كانت أنقرة قد عملت فيه على تحشيد الموقفين الروسي والإيراني وراء تصوراتها لإقامة تلك المنطقة، والمؤكد وفق ما أشارت تقارير أن أردوغان كان قد سعى إلى الحصول على تأييد شريكيه على إقامة منطقة آمنة على امتداد الحدود السورية التركية بطول يزيد على 910 كم تبدأ من قرية «السمرا» في أقصى الشمال لمدينة اللاذقية وصولاً إلى «عين ديوار» في أقصى الشرق عند مثلث الحدود السورية التركية العراقية، على أن تكون بعمق يتراوح بين 5-30 كم تبعاً للضرورات ولطبيعة عاملي الجغرافيا والديموغرافيا، ومن الراجح أن هذا الطرح قد لقي تفهماً مشروطاً لدى كل من طهران وموسكو، وهو قد يصبح مقبولاً إذا ما قبلت أنقرة إعادة تفعيل اتفاق أضنة لعام 1998 مع إجراء بعض التعديلات عليه.
كتكثيف لكل ما سبق يمكن اختصار المشهد المتولد عن قمة أنقرة وفق التالي: انطلاق عمل اللجنة الدستورية قريباً من دون أن يعني ذلك أن المرحلة القريبة المقبلة سوف تشهد انفراجات كبرى حول وضع دستور جديد للبلاد، فالأمر جد معقد وهو يحتاج إلى المزيد من الوقت، وفي ملف إدلب هناك تأجيل للمعركة الكبرى لكن دون توقف العمليات العسكرية التي من شأنها استهداف التنظيمات الإرهابية وهو ما يعكسه الفيتو الروسي الصيني 19 أيلول الجاري ضد مشروع قرار غربي كويتي كان يهدف إلى استصدار قرار بوقف إطلاق النار بدءاً من يوم السبت الماضي، وفي ملف شرق الفرات يبدو أن الأكراد باتوا أمام مصير مجهول في ظل الإصرار على ممارسة سياسات أقل ما يقال فيها أنها مبنية على قصور في الرؤى أو عدم القدرة على تلمس رياح التغيير في مواقف الأطراف قبيل أن تصبح واقعاً على الأرض وهو ما يمكن تلمسه في تصريحات الرئيسة المشتركة لـ«مسد» إلهام أحمد وفي تصريحات الرئيس السابق لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) صالح مسلم حين قال إنه لن يكون بمقدور أي جندي تركي أن يطأ مناطق سيطرة الأكراد، كان على الاثنين أن يدركا أن التهديدات التركية في إنشاء المنطقة الآمنة وفق تصوراتها التي تشي بتشكيل حاجز عربي ما بين الكرد والأتراك تتلاقى مع مسعى أميركي سعودي ماض نحو إنشاء مجلس قبائل وعشائر عربية قد يرى النور خلال أسابيع، وهو مسعى يعني في مدلولاته أن واشنطن قد رمت بكل المشروع السياسي الكردي وراء ظهرها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن