قضايا وآراء

خشية من ولوج في المحظور

| عبد المنعم علي عيسى

بينت التسريبات الخاصة بالبريد الإلكتروني لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون التي نشرها موقع «ويكيليكس» العام 2017، أن المصير الذي لقيه نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، ومصير هذا الأخير الشخصي في أواخر تشرين الثاني من العام 2011، إنما تأتى من «تجاسره» على سطوة الفرنك الفرنسي في مناطق الفرنكفونية الإفريقية عندما فكر بإنشاء عملة ليبية مدعومة بالذهب تكون لعموم إفريقيا، الأمر الذي دفع بالناتو في ربيع هذا العام الأخير للتراصف، وللمرة الأولى وراء القيادة الفرنسية، كونها المتضرر الأكبر، لخوض معركة إسقاط نظام العقيد، فيما المصير الشخصي الذي لقيه كان قد حتمه عاملان اثنان، الأول وجوب إسكاته ضماناً لعملية دفن مؤقت لخفايا صلاته المالية مع الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي، أما العامل الثاني فهو جعله عبرة لمن يراد له أن يعتبر بها.
لم تخلق تفجيرات الفجيرة الإماراتية في 12 أيار الماضي وكذا استهداف محطتي دودامي وعفيف السعوديتين بعد يومين من هذا التاريخ الأخير، بل ولا إخراج نفط بقيق وهجرة خريص من الخدمة في 14 من أيلول الجاري، لم تخلق دافعاً يدعو إلى أن تستل واشنطن سيفها ذوداً للدفاع عن حلفائها ولو بذريعة تهديد سوق النفط العالمي الذي تهدد بدرجة أكبر مما حدث إبان غزو صدام حسين للكويت في آب 1990.
استبعاد خيار النار برغم كل الأحداث السابقة يؤكده إعلان ترامب بعد 6 أيام من حادثة بقيق عن عقوبات قال إنها الأقسى مما تعرضت له دولة من قبل، وهو، أي فعل استبعاد النار، كان نابعاً من عاملين اثنين، الأول هو التغير الحاصل في العقيدة العسكرية الأميركية التي استولدتها أحداث أيلول 2001 في نيويورك، أما ثانيهما فهو تقلص مفهوم «المصالح الأميركية» في أعقاب رفع شعار «أميركا أولاً» الذي تبناه ترامب منذ إطلاقه لمشروعه الانتخابي في العام 2016، وبمعنى آخر بات ذلك المفهوم يشمل فقط المصالح المباشرة للأميركيين وفي الذروة منها استهداف الجنود أو القواعد أو السفارات وما يعادلها.
برز قبل أيام تطور مهم يمكن له أن يدفع وفق المعايير السابقة نحو توجه آخر إذا ما قدر لذلك التطور أن يغوص عميقا في اندفاعته، ففي 18 أيلول الجاري أعلن الرئيس الإيراني حسن روحاني أن معركة جادة لمواجهة الدولار الأميركي قد بدأت بالفعل على الصعيد العالمي، وهي تفترض ضمناً القفز فوق نظام «سويفت» الذي يمثل شبكة الأمان بين البنوك حول العالم، والجدير ذكره أن تقارير متعددة المصادر تقول إن طهران قد بدأت في رسم معالم هكذا طريق عبر تعاملات لا تزال محدودة مع كل من روسيا وتركيا والعراق.
بداية من المؤكد أن لإيران كامل الحق في اتخاذ كل الخطوات التي تضمن لها تعزيز مواقفها في مواجهة هي الأعتى منذ العام 1979 مع الدولة الأعتى في العالم، والمؤكد أيضاً أن المسار الذي تحدث عنه الرئيس روحاني ليس بجديد، فالصين ما انفكت تحفر في هكذا قناة قبيل بضع سنوات، ولربما كانت هذه الأخيرة قد حققت بعض النجاحات إلا أنها مدركة أن الطريق طويل ودونه عقبات كبرى تأمل ألّا يكون من بينها أزيز الرصاص أو دوي المدافع، وللصين في مسارها ذاك أثقالها وحيثياتها التي تمكنها من إدارة اللعبة وصولاً إلى بر الأمان، وأكثر ما يلحظ هنا هو أنها تتحسس تتالي الخطوات ملياً قبيل أن تقرر ماهية الخطوة الجديدة، وهي لا تفعل إلا وملؤها اليقين أن المداس تحت قدميها صلب بما يكفي للتقدم إلى الأمام.
ما نريد قوله عبر السياق السابق إن هكذا مسار هو أكبر من قدرات إيران وحجمها، واللعبة يظهر حجمها إذا ما أدركنا أن ريع الدولار، أي استخدامه كعملة عالمية، يدر على الاقتصاد الأميركي ما يقرب من ربع الناتج القومي للبلاد، ولا مصلحة لطهران خصوصاً في هذا الظرف الدقيق أن تظهر بمظهر رأس حربة محفز لآخرين أن يحذو حذوه، والخشية هنا أن تندفع الولايات المتحدة في لحظة هوجاء قد تفتعلها تطورات غير محسوبة نحو أن يصبح التفكير المجدي لوقف هكذا مسار هو في ضرورة ضرب «الخراف» لإخافة «الثيران».
حققت إيران خلال الأعوام العشرة الماضية الكثير، وتجربتها اليوم هي الأهم من بين تجربتين سابقتين شهدتهما المنطقة في السياق ذاته وهما تجربة محمد علي مطلع القرن التاسع عشر وتجربة جمال عبد الناصر منتصف القرن العشرين، لكنها اليوم تمر بمرحلة دقيقة تقتضي الكثير من الحذر، ومن المهم فيها ألا يصبح خيار التصعيد هو الملاذ الوحيد لوقاية الذات، صحيح أن موانع الاستجابة للدعوات والرسائل التي ما انفك ترامب يرسلها باتجاهها هي كثيرة بدءاً بالحصار الاقتصادي وليس انتهاء بالتحشيد العسكري في الخليج، وكلها مؤشرات تدل على أن القبول بالتفاوض وسط هكذا مناخات يعني قبولاً بنتائج مجحفة قياساً للمقدمات سابقة الذكر، إلا أن الصحيح أيضاً هو أن الإصرار الأميركي على تكرار تلك الدعوات من شأنه أن يؤدي إلى إحراج طهران، ولربما من المفيد التمعن في تجربة التفاوض التي أطلقتها بيونغ يانغ مع واشنطن قبل سنتين، فعلى الرغم من قمم ثلاث جمعت بين الرئيسين الأميركي ونظيره الكوري الديمقراطي فإن شيئاً مما تريده واشنطن لم يتحقق، لكن في الآن ذاته شكل باب التفاوض، الذي لم يزل موارباً حتى الآن، نزعاً لفتيل أزمة بلغت في إحدى مراحلها حدوداً قال فيها هذا الأخير إنه ينام على الدوام وبجانبه «زره النووي» فرد عليه الرئيس الأميركي ترامب أن لديه زراً نووياً أكبر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن